تفتحُ عينيكَ في الصباحِ، تُغمضهما في المساءِ على ذاتِ الصورة، التي يحملها البعضُ بجنونٍ في الشارع. وسط حملةٍ خلاص لا مثيلَ لها، تعيدُ للأذهانِ ما فعله المصريّون الأوائل طيلة سبعة آلاف عامٍ من التاريخ الموجع، إذ يهرعون إلى منقذ ما، وعادة يتحلى بمهنية عسكرية. من الملك مينا أو "نارمر" موحّد القطرين، إلى أحمس ورمسيس وغيرهم من صناع التاريخ، إلى سجلّ الغزاة والمحتلين من كافة أصقاع الأرض، هكسوس.. رومان وبطالمة، و"فرنجة" كما أطلق شيخ المؤرخين، الجبرتي، مروراً بفاطميين وعثمانيين ومماليك، من كليوباترا إلى شجرة الدر، وكافور والحاكم بأمر الله، حتى محمد علي "باشا"، ذلك الجندي الألباني في عسكر الخليفة العثماني، أجلسه المصريون على عرش البلاد، نكاية في صراع المماليك. انتخاب الفشل وافتتح المصريون منتصف القرن العشرين، بانقلابٍ قاده "ضباطٌ أحرارٌ" أصبح فيما بعد ثورة، كان دائماً المنقذ عسكري: محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك. وارتضى المصريون أن يكونوا أمانة بيد مؤسستهم العسكرية، الوحيدة القادرة على الإمساك بزمام الأمور، تغليباً ل"القدرة" على الرغبة. وحتى عندما اختاروا مرشحاً مدنياً الإخواني محمد مرسي، شعروا بالندم، لمجرد أن "عصروا الليمون" وأوصلوه لسدّة الحكم، نكايةً في منافسه، قبل أن يكون حبّاً له.. فقد اكتشفوا أنهم إنما انتخبوا "الفشل".! بسقوط مبارك، لجأ المصريون إلى "مجلس عسكري" تسلم زمامَ سلطةٍ سرعان ما سلمها ل"رئيس مدني منتخب"، لم يمرّ عام حتى انقلب الشعب عليه، وخلعه، بإشراف عسكري، كان بطل الشعب الأول، وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي. الجنرال، الذي أصبح بطلاً شعبياً، مثّل لكثير من المصريين، في الأشهر الأخيرة، أيقونة، بوجود حشدٍ إعلامي متعدد المشارب، بما في ذلك الذين يحاولون تملق "عزيز مصر" ورجلها القوي الآن. تفريغ الساحة مع تصاعد المطالبات بترشيح الجنرال، اختفى المتنافسون على سكنى القصر الرئاسي، بعضهم أعلن عزوفاً عن خوض السباق، مثل المرشح الرئاسي السابق عمرو موسى، الذي اكتفى برئاسة لجنة ال50 لتعديل الدستور، مع آمال مستقبلية ربما برئاسة البرلمان المقبل. غالبية المرشحين الآخرين، أعلنوا دعم "الفريق" إذا ترشح. وأعلن المرشحان السابقان أحمد شفيق، وحمدين صباحي، موقفاً من هذا القبيل، وإن كان الأخير الذي كان حصان السباق الرئاسي الأسود، بدا متذبذبا، يعلن دعمه، ثم يقرر المواجهة.. وهكذا. مرشحون محتملون، وأحزاب سياسية، بعضها تقليدي، والآخر "هش"، كلهم تسابقوا لإخلاء الساحة، وتفريغها تماماً، ربما تقديراً لدور رجلٍ ساهم بدور أساسي في إعادة الحياة لهم، بإسقاط غريمهم البائس "الإخوان".. ولكن ما الذي يدفع مواطنين عاديين، للتمسك بترشيح البطل الجديد؟. سؤال لم يجب عليه أحد من النخبة التي مثلت غياباً مريعاً، حتى في الاستفتاء الأخير، أو أنها لم تفهمه.! صناعة الزعيم ربما يكون صحيحاً، أن المصري بطبعه وميراثه التقليدي، عبر حقب تاريخية من حياته، منذ عهد الفراعنة الأوائل وحتى الآن، يميل لحضور البطل الزعيم. أو ربما كانت بحثاً عن ضوء في آخر نفق طال السير فيه أكثر من ثلاث سنوات، حلماً وراء أنشودة الرجل "المخلّص" بعد عناء مرهق، أزمات اقتصادية، وبطالة، وفوضى أمنية، وقبل هذا وبعده.. فقدان الأمل.. أو خيبته؟!. حضور البطل، أو الزعيم، يبدو الآن على الأرض، وكأنه تكرارٌ للأسطورة التاريخية، إيزيس التي جابت البلاد، لتلملم أشلاء أوزوريس، أملاً في إعادة الحياة، في رحلة أمل طويلة. تعارض وتسابق وبينما يعتبر عميد معهد الإعلام الدولي بالقاهرة، د. محمد شومان، أن الترويج لفكرة الزعيم البطل تتعارض مع متطلبات التحول الديموقراطي، ودولة المؤسسات، فإنه يشير إلى اختلاف السياق التاريخي وظروف مصر التي تجعل من غير المنطقي المقارنة أو المقاربة بين السيسي وكل من عبدالناصر والسادات. مؤكدا أنه ليس المطلوب لمصر رئيساً، على غرار بوتين إذا كانت هناك رغبة جادة في تحول ديموقراطي حقيقي، تصطفُّ الرموز بكافة أطيافها وراء الزعيم الجديد، بانتظار أن يعلن قراره. حزب الوفد التاريخي، والليبرالي تقليدياً، أعلن تأييده للفريق، فيما جبهة الإنقاذ، التي تواجه الانقسام، تخلت عن دعم رفيق دربها، صباحي، وأكدت مساندة الرجل القوي، وكذا أحزابٌ وكياناتٌ أخرى، منها ما هو ثوري، ومنها ما هو محسوب على الثورة. كلها تتسابق إلى إبداء الولاء والتأييد، رغم اختلاف النوايا والأهداف. كل الطرق في مصر الآن، وحتى بوجود إشارات وتكهنات متناقضة، يبدو الشعار التقليدي: "كل الطرق تؤدي إلى السيسي" لا صوت يعلو، إلا على استحياء، فيما يتخلى الجميع بمن فيهم شخصيات مؤثرة عن خوض السباق، ما لم تحدث مفاجأة، خوفاً من هزيمة مذلّة، وفيما أصوات تطالب بتحوّل ديموقراطي، يمكن أن يحيي المنافسة.. بانتظار الفرج المرتقب بعد أيام، السبت المقبل، 25 يناير.. تتعالى الأصوات المتشدّدة بالتكليف وليس مجرد التفويض.