( كان يأتي إليه البدو والبحارة والقرويون من أقصى الشمال والشرق والرياض ، ليجتمعوا قليلاً عند الطائر الحر : العمدة ( أبو سعد ) . وكان يستقبلنا بضحكته البيضاء المجلجلة ، بقامته المديدة السمراء ، فاتحاً صدره لنا وعشه وكتبه ووعيه الجميل وزاده القليل .. وأتذكر تلك الحوارات والخصومات الجميلة التي تحدث دائماً بين المثقفين المجانيين . وكان دائماً ما يتحمل نزق وغضب أصدقائه الكثر بصدر رحب ). "سعود الجراد" إذا أردت أن تقوض مقولة ( المثقفون يعيشون في أبراج عاجية ) فمن السهل جدا ، عليك بهذا المثقف لتقدمه أنموذجا شديد النصاعة على أن تلك المقولة أنتجها مثقفو الصوالين ، والمتورمون في عباءاتهم الأكاديمية ، أولاء الذين نبذهم فايز ، فناصبوه العداء ، لأنه يفضح خواءهم الروحي إنسانيا ، ويكشف ركاكتهم وهشاشتهم على ما يحملون من شهادات . فاغلبهم جاء للكتابة ممتطيا درجته العلمية ، رغم أنه ليس بالضرورة أن يكون الأكاديمي مبدعا وكاتبا متميزا . وحين وصفه الكاتب المصري ( كمال حمدي ) - عمل محررا في القسم الثقافي بجريدة الرياض في الثمانينيات الميلادية - بأنه صاحب الرأس الصغير الذي يحوي مكتبة متنقلة . لم يكن إلا مدونا دهشة صغيرة إزاء هذا الكائن العجيب في وعيه واعتزازه بكونه منتم للمثقفين الأحرار الذين لم تخضعهم المؤسسة كما يحب أن يقدم نفسه دائما قبل أن يوضح ( أصنف نفسي كاتبا ، ربما كاتب معني بالاشتغال بالمسائل النقدية ، إنما لا أصنف نفسي ناقدا ، بل كاتبا محبا للإبداع يعمل على النقد أو يعمل في مجال تقديم الدراسات التي تخدم ذوق القارئ ) . لعل هذا الوصف يشكل مدخلا مناسبا إلى شخصية ( فائز محمود محمد أبّا فلاتة ) الذي أسفت الحركة الثقافية لتعرضه لجلطة دماغية منذ قرابة عامين وهو يقضي الآن فترة علاجه متنقلا بين المستشفيات الخاصة!! فاقدا القدرة على الكتابة ، وان لم يفقد قدرته المرعبة على المتابعة والبحث والاستقصاء عما يدور من حراك ثقافي سواء محليا أو عربيا أو دوليا، في تماسك يذكر بتماسك حبات الطوب التي كان ينتجها مصنع جده محمد أبا أحد أوائل من أنشأوا مصانع الطوب في مكة قبل أكثر من نصف قرن. ظهر فائز ككاتب لافت في السبعينيات الميلادية ، وقال عنه القاص الراحل ( سباعي عثمان ) - أحد أهم من تصدى للصفحات الثقافية في الصحافة السعودية - واصفا تلك اللحظة المشرقة في مسيرة فايز الكتابية ( كان فائز يذهلني بما يبعث به في أوائل السبعينيات الميلادية من مكةالمكرمة من مراجعات لانتاج أدباء النهضة كالعقاد وطه حسين والمازني ، ومتابعات للأدب المهجري . وأذهلني أكثر عندما قابلته فوجدته فتى يانعا يكتب أشياء أكبر من سنه ، ولكني لا أندهش عندما أراه الآن يمثل أحد الأسماء المهمة في الحركة الثقافية ، لأنه عبر عن نبوغه مبكرا ) . وهنا يتجلى ملمح من ملامح تكوين فايز الثقافي ، فهو يكاد يكون واحدا من قلة في مشهدنا الثقافي المحلي ممن تمكنوا من الأدبين العالمي والعربي بشقيه ( التراثي والمعاصر). وأذكر هنا أن المفارقة تمثلت في أن الكلية التقنية بجدة التي كان يعمل بها فايز - قبل استقالته وتفرغه للصحافة في عام 89م - محاضرا للغة الإنجليزية ، كلفته بتدريس مواد في اللغة العربية على الرغم من كونه غير متخصص فيها أكاديميا !! وحين عمل في الصحافة السعودية الصادرة باللغة الإنجليزية - عرب نيوز عام 94 م - كان في طلائع هواجسه نقل نبض الشارع والهم اليومي المحلي إلى تلك الصحافة التي لم تكن تولي كبير الاهتمام بالحياة اليومية المحلية من منطلق أن قارئ هذه الصحيفة غير معني بها ، وهذا خطا مهني يفرط كثيرا في فرصة تقديم أنفسنا كبشر للآخر ، إضافة إلى تقديم المشهد الثقافي المحلي لهذا لآخر ، فكان أن امتلأت صحيفة عرب نيوز بتحقيقات وقصص خبرية من الشارع ، كان فايز ينتجها ببراعة ، بعد أن خلع وهم نخبوية المثقف .. حطم ابراجه فساح في الشوارع ملتحما مع الناس وأحلامهم ، سمع أنينهم ، ودون تطلعاتهم ، فاحصا فكرة مسؤولية الكاتب باعتباره فاعلا أخلاقيا في محاولة قول الحقيقة عن أمور ذات قيمة إنسانية لجمهور قادر على فعل شيء ما حوله، مبرزا جانبا من معنى أن يكون المرء فاعلا أخلاقيا وليس غولا . وفي ظني أن للتكوين الأول لفايز دورا في تأسيس هذه الموازنة داخله وعدم إصابته بثؤلول عجرفة المثقف وطاوسيته التي تتلبس بعضا ممن انتموا لهذه الكائنات التي كانت لها قيمة في مجتمعها في يوم ما ، فهو نشأ في منطقة بينها وبين الحرم المكي مسافة أمتار ، وهي حي ( المسفلة ) الشهير كأكبر حي شعبي في العاصمة المقدسة ، الذي عرف بضمه لعديد من النخب الثقافية والاجتماعية في المجتمع المكي والمتوافر على بيئة خالصة الشعبية بكل ما تحمله الكلمة من قيم التواضع والنبل والشهامة وروح الإيثار وسواها من قيم توفر اتزانا داخليا للنفس البشرية . وتميز هذا الحي في فترة تاريخية امتدت إلى بدايات الطفرة الاقتصادية بنشاط ثقافي أهلي شكل أجواء صقلت بدايات فائز مع الكلمة . وتلقى تعليمه في مدرسة الفلاح بمكة ، إضافة إلى تتلمذه كما هي عادة المكيين في ذلك الزمان على يد عدد من علماء وحلقات المسجد الحرام ، التي دائما ما يرجع إليها فائز الفضل في معرفته العلوم العربية والشرعية والتراث . وبعد إتمامه المرحلة الثانوية إلتحق بكلية التربية فرع جامعة الملك عبد العزيز بمكة آنذاك (قسم اللغة الإنجليزية ) ونال درجة البكالوريوس عام 1978 م بعد أن سجل تفوقا أهله لمواصلة دراساته العليا في جامعة الملك عبد العزيز حيث بدأ في إعداد اطروحة الماجستير عن أدب الكاتب الإنجليزي ( سومرست موم ) ، ولكنه لم يتمها لخلاف دب بينه وبين مشرفه في الجامعة . وهنا تتجلى شخصية فايز التي يعرفها عنه الوسط الأدبي وهي عدم اتساقه مع المناخات الصقيلة ، و تمسكه الصارم بمبادئه وقناعاته ، ورفضه التنازل والانحناء فيما يتعلق بما يصفه فايز ( الطيور لا تغرد داخل القفص ). كان لا يرى في المثقف إلا طائرا حرا ، وهو ما دفعه للاستقالة من عمله الأول ( التدريس ) بعد أن مارسه لسنوات ، كان آخرها في الكلية التقنية بجدة . بينما كان قد عمل في الصحافة ( متعاونا وكاتبا) منذ فترة مبكرة تصل لما قبل 1975 م ، ولكن غالب عمله كان بعيدا عن المؤسسة ، حتى التحاقه بمجلة "اقرأ" كرئيس للقسم الثقافي فيها عام 1986 م بصحبة الراحل عبد الله باهيثم زميل دراسته في الجامعة ، فقدما أنموذجا في نكران الذات إذ لم تعد تعرف من هو رئيس القسم !!. ثم عمل في صحيفة "عرب نيوز"، تلتها صحيفة "سعودي جازيت" الصادرتان باللغة الإنجليزية ، وكانت آخر محطاته الصحافية جريدة "الوطن" منذ مرحلة التأسيس عام 1999 م ، ثم انتهى به الأمر مستقيلا عام 2001 بعد أن رأس فيها قسم الترجمة. وطيلة هذه الفترات اشتهر منزله كمنتدى ثقافي ، تميز أكثر بانفتاحه على الشباب والناشئة الذين يجدون عنده تواضع المثقف وإنسانيته وطهره وهي المرتكزات الأساسية التي تحدد قسمات فائز ورؤيته لموقف المثقف الأمر الذي أكسبه احترام الكل حتى أولئك الذين لا يروق لهم . فهو صريح في أدب ، سليط لسان بنبل ، لماحته مدهشة ، وحدته يمررها بحب تخالطه ابتسامات صافية . يقول الكاتب ( عواض العصيمي ) - أحد من مروا على فايز في خطواتهم الأولى بدرب الأدب - : (الناقد فائز أبا ... يقبل إليك بحديثه وصوته الخفيض فتشعر بعمق الزمن وتحس كما لو أنك كنت تنصت اليه منذ زمن طويل وليس اللحظة . لطفه وبشاشة محياه تستقبلانك قبل الباب وتجلسانك بتهذيب شديد بالقرب منه . لم أشاهده عابس الوجه ، ولم اسمعه غليظ الصوت . كان إلى جانب محاولاتي في الثمانينيات كما لو أنه يخشى عليها من الذبول السريع في وسط ثقافي لم يكن يعترف إلا بالمشاهير . أرجو له الشفاء العاجل والعودة إلى نور الحياة تحت رحمة الله الواسعة ). أما في كتاباته ومتابعاته النقدية فتتضح رؤيته النقدية في قوله في حديث صحفي سابق نشرته إبان عملي بجريدة "الرياضية" (المنهج الذي أميل إليه ، منهج تاريخي يبحث في علاقات الإنسان .. علاقة العام بالخاص ) ، وكان دائما يرى ( أن النقد مرحلة تحتاج إلى كثير من الأدوات ، وكماً معرفياً هائلا وفي جميع الاتجاهات والعلوم الإنسانية التي تتعامل مع الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي الشامل ) . وعبر هذه الرؤية تمكن فايز من اجتياز المأزق الذي وقع فيه عدد من الكتاب والنقاد في فترة الثمانينيات عندما أسرفوا في مصادرة وتهميش المخالفين لهم من التوجهات الأدبية الأخرى. وظل صديقا للجميع لأنه ينطلق من موقف فلسفي يؤكد على ضرورة إعلاء فكر وثقافة الرأي والرأي الآخر ضمن أطر التحضر والتسامح والأدب . وأكثر جانب يذكر في نتاج فائز اهتمامه بالأدب الأجنبي ، خاصة في شقه اللاتيني ، حيث أسهم طيلة فترة الثمانينيات في تقديم العديد من النصوص والأسماء الأجنبية بعد أن ترجمها وعرف لها ، وكان من أبرزها ( ضفة النهر الثالثة ) قصة البرازيلي غوريماس روزا ونصوص جوزيه أيالا وأغستو دالمار. وفي هذا السياق يشار إلى كونه أول من نقل كتاب الروائي الفرنسي ( كونديرا) عن فن الرواية إلى اللغة العربية ، ولكن انعدام حركة الترجمة في السعودية وانصراف الأندية الأدبية عن الأدب الأجنبي حال دون طباعة الكتاب حتى طبع عقب ذلك في أكثر من بلد عربي ، بعد أن كان فائز قد نشر جزءا كبيرا منه في زاويته الأسبوعية بجريدة البلاد الشهيرة ( من يعلق الجرس ) .كما ترجم أعمال عدد من القصاصين السعوديين إلى الإنجليزية . وأنجز دراسة شاملة عن القصة الحديثة في السعودية بالثمانينيات حاول خلالها إيجاد صلة بين الطفرة الاقتصادية وما ساد تلك القصة من اغتراب . وفي هذا السياق يرى بعض المتابعين أن فائز الاسم الأجدر ترشيحا لتناول القصة السعودية ، ويتأكد هذا الترشيح لمحليته ومعرفته بكل فسيفساء الواقع المحلي . هذا الواقع المفتقد لمؤسسات ثقافية تعمل بحرفية ووعي حقيقي وإدراك لماهية الثقافة ، إذ لم تفكر أي مؤسسة ثقافية في البحث عن نتاج فايز الكتابي وطباعته كأقل تكريم تقدمه لرجل اسهم في خدمة الثقافة الوطنية ، وشارك في صناعة الأدب الجديد ، بكل حب نزيه، و صمت وبابتعاد أبي عن الزيف والإدعاء.