من فيض.. من دواخل الأسماء التي يستضيفها هذا الفضاء، نحاول مقاربة جوانب مخزونها الثقافي والمعرفي، واستكناه بواطنها لتمطر، ثم تقديمها إلى الناس، مصطحبين تجاربهم، ذكرياتهم، ورؤاهم في الحياة ومن حولهم، وذلك على شاكلة أسئلة قصيرة وخفيفة في آن. هنا نعيد الغائب الأكبر عن ساحتنا الأدبية فهد الخليوي إلى ذاكرة القراء، الذين ما زالوا يتذكرون القرية التي هجرتها شاحنات القمح، ويستعيدون ثقافة (اقرأ)، ويسألون ابن جيل السبعينيات عن المشهد الثقافي الآن. • الثمانينيات تاريخ دائما ما يرتبط لديك بالعزلة والانقطاع عن العالم في الساحة الثقافية المحلية.. فما قولك في ذلك؟ في الثمانينيات كنت حاضرا من خلال قراءاتي ومتابعاتي لما كان يدور في الساحة الثقافية المحلية، ومن خلال إشرافي على الملحق الثقافي في مجلة «اقرأ» حتى بداية الثمانينيات. • طيور منتصف السبعينيات تألقت وحدتهم، واتحدوا على أن يخرجوا من أسوار الحكاية إلى التحليق في فضاءات فن القصة القصيرة.. كلمات شاهد من ذاك التاريخ هل هذه هي كل الحقيقة؟ منتصف السبعينيات، بداية لمرحلة مشرقة ومتمردة على السائد في الساحة الأدبية والثقافية المحلية، وكانت تلك المرحلة فضاء رحبا للصراع الحقيقي بين القديم والحديث على مستوى الإبداع والفكر. لقد تجاوز جيل السبعينيات مراحل سبقته، حيث شهدت ساحتنا الأدبية انفتاحا على إبداعات العالم وتقنيات أساليبه التعبيرية الجديدة، كفن القصة القصيرة الحديثة، التي كتبها كل من: عبد الله السالمي، سليمان سندي، عبد العزيز مشري، جبير المليحان، محمد علوان، جار الله الحميد، حسين علي حسين، وعبد الله باخشوين، وغيرهم في تلك الفترة. وهؤلاء تربطني مع معظمهم صداقات عميقة، وكنا نلتقي ونتبادل قراءة بعض الكتب التي يصعب وجودها (محليا) ويجلبها بعض الأصدقاء عندما يسافرون إلى الخارج، كنا نقيم أمسيات أدبية وثقافية داخل بيوتنا تمتد إلى ساعة متأخرة من الليل، ونتحاور بحماس حول ما قرأناه، لنجيب محفوظ، يوسف إدريس، زكريا ثامر، كافكا، جويس، دوستوفسكي، وسارتر، وغيرهم من المبدعين الكبار في العالم. وقد تعرض طموحنا لضربات موجعة في ظل ثقافة الإقصاء والظلام، التي فرضها الصوت الأحادي الممعن في تعنته وسيطرته على منابر التعبير وقنوات الإعلام!! • حداثة الشعر في الثمانينيات أصابها تيار هجوم عنيف، فابتعد عن الشعر الكثير بمن فيهم بعض متبني الحداثة.. هل طال القصة القصيرة شيئا من ذلك؟ كان التقليديون يهاجمون الشعر الحر باعتباره شعرا تغريبيا يهدد بزعمهم القيم الدينية والاجتماعية لأنه برأيهم لا يلتزم ببحور الخليل وقوافيه. وقد ابتعد بعض شعراء الحداثة في تلك الفترة عن إثراء تجاربهم الشعرية، خوفا من تسلط التيار المهيمن واتهامهم بالخروج، بدليل أن شعراء الحداثة وعلى رأسهم محمد الثبيتي الذين أصروا على كتابة الشعر الحر واجهوا هجوما شرسا على المنابر، وألصقت بهم تهم زائفة ما أنزل الله بها من سلطان. لقد طال الهجوم كل الفنون والإبداعات العصرية، وليس الشعر فحسب، ولم يكن يتجرأ كاتب أو ناقد في ظل هيمنة تلك التيارات في تلك الفترة في الحديث مجرد الحديث عن المسرح والسينما، ولو وجدت تلك التيارات المتسلطة من يوقفها منذ بداية ظهورها عند حدها وعند حد ممارسة مسؤوليتها لكنا وصلنا اجتماعيا وثقافيا إلى مستوى الأمم المتقدمة. • الشعر نهر خالد لا يجف إلا إذا تبلدت وجفت مشاعر الإنسان.. حدثنا عن فهد الخليوي الشاعر، وهل ستكون هناك مجموعة شعرية؟ هذه مقولة قلتها في حوار قديم، وما زلت أرددها ومؤمن بها لأن الشعر لا يموت.. سيظل متدفقا حيا في ذاكرة الإنسان ووجدانه، ولكن من الصعب القول بأنه ما زال ديوانا للعرب في عصرنا الحديث وفي تعدد فنونه الإبداعية من رواية ومسرح وسينما وغيرها. أما إجابتي على الجزء الأخير من سؤالك، فهي تتضمن أنني لا أصنف نفسي شاعرا.. تجربتي الشعرية ليس لها حضور قوي، نظرا لأن الكثيرين عرفوني في الساحة قاصا وليس شاعرا. لكن الذي يحدث بالنسبة لي هو أنني عندما أشرع في كتابة قصة أكتشف أنني أكتب خواطر تشبه الشعر ولا تشبه القصة. وعندما أعيد قراءة تلك الخواطر أنشرها بعد مراجعتها وتشذيبها في بعض الصحف أو المواقع الثقافية على (النت) كخواطر، ثم أجدها تصنف برأي الأكثرية على أنها نصوص شعرية، ومع مرور الوقت تشجعت على نشر الكثير منها باعتبارها نصوصا شعرية، ولا أخفيك بأن فكرة إصدار ديوان شعري ما زالت تراودني. • ترجمت أعمالك الأدبية إلى عدة لغات.. ماذا أضافت لك مغامرة الترجمة؟ الترجمة منذ القدم هي الناقل والوسيط لتفاعل ثقافات وإبداعات الأمم، ودورها حضاري في المقام الأول، والترجمة طوعت اللغة لتصبح لغة عالمية مشتركة وثقافة مشتركة بين الشعوب، وقد أضافت لي ترجمة نصوصي إلى الإنكليزية والفرنسية الشيء الكثير، إذ وجدتها منشورة في مواقع أدبية عالمية، وهذا بحد ذاته حافز قوي للأديب العربي لتقديم الأفضل والمتجاوز عندما يرى إبداعه مترجما للغات حية ومنتشرا بهذه الصورة المشرفة. • القصة القصيرة جدا.. هل ستعيدنا إلى ما حدث مع قصيدة النثر في بداية الستينيات؟ القصة القصيرة جدا إبداع جديد أخذ ينتشر ويؤثر في الساحة الإبداعية العربية بقوة، وهي فن يعتمد على الإيجاز في السرد واختزال الحدث والفكرة في قالب من الصور المكثفة، ولهذا الفن معارضون ضد تصنيفه ضمن فنون الأدب، كما كانوا يعارضون في بداية الستينيات سطوع قصيدة النثر التي أصبحت فيما بعد فنا شعريا يبدعه الجيل الجديد من الشعراء العرب، حيث انتشرت قصيدة النثر وهيمنت على وسائل النشر الورقي والإلكتروني، كما يرى المتابع لحركة الإبداع. • حبك للقصة بث فيك روح المغامرة والتجريب المتعدد، ماذا كان نتاج تلك المحاولات؟ التجريب في القصة القصيرة كان سمة من سمات جيلنا. معظم تجاربي مزقتها ولم أضمنها في مجموعتي القصصية التي صدرت قبل عامين لعدم قناعتي بنشرها ضمن المجموعة. • غيابك الطويل.. فترة ركون من عاصفة الهجوم، أم فترة جمع الكلمة؟ قد يكون غياب الكاتب مرتبطا بظروف خاصة تبعده عن الساحة ردحا من الزمن، ولكن متعة الكتابة ومعاناتها تدفع للعودة إليها مهما طال زمن الغياب، ولا ينبغي أن تصبح عودة الكاتب بهدف الهجوم على الآخرين بدون مبررات منطقية. • في الفترة التي عملت فيها داخل المؤسسات الإعلامية، هل استطعت أن توفق بين العمل الصحافي والإنتاج الأدبي؟ العمل الصحافي لا يعطي الأديب وقتا كافيا للتفرغ لإنجاز عمله الإبداعي، وقليل من الأدباء الذين اشتغلوا في بلاط الصحافة ووفقوا بين العمل الصحافي وهواية الأدب ونجحوا في ذلك، في فترة اشتغالي بالصحافة وأثناء إشرافي على الملحق الثقافي في مجلة «اقرأ» كنت مهتما بمتابعة التجارب الإبداعية الجديدة والحرص على نشرها في الملحق، كما كنت منشغلا بإجراء الحوارات الثقافية وكتابة المقالات النقدية والاجتماعية أحيانا، ولم تشغلني كتابة القصة القصيرة إلا نادرا. • بين المقال والقصة القصيرة.. نبض قلمك لمن يكون؟، ولماذا؟ كتابة القصة عندي عشق ورحلة ممتعة بعيدا عن مباشرة المقال ومحاذيره المقلقة، ولكن الأدب والفن عموما يحتل المنطقة المهمشة بل والغائبة في خريطة مجتمعنا، ما يجعل الكاتب يميل من أجل إيصال رسالته مباشرة إلى كتابة المقال، وقد هجر الكثير من كتاب الأدب متعتهم الحقيقية، وانخرطوا في كتابة الزوايا الصحافية الدارجة لإيصال رسائلهم لشرائح اجتماعية متعددة. • حضرت في زمن النت بقوة.. هل وجدت نفسك أكثر داخل الشبكة العنكبوتية ؟ برأيي أن وسائل النشر الإلكتروني تتعاظم يوما بعد يوم في كل العالم، مهددة بكل ما تعنيه هذه الكلمة وسائل النشر الورقي بالانقراض وعلى المدى القريب. «النت» فضاء رحب أحال العالم بالفعل إلى قرية، أنت على الشبكة العنكبوتية تكتب وتقرأ بحرية وتستحضر المعلومة التي تهمك خلال دقائق، بعيدا عن ديكتاتورية الرقابات والحواجز المفتعلة التي كان يفرضها الأوصياء على أفكار البشر. أصبح «النت» لنا جميعا متنفسا حقيقيا ووسيلة اتصال وتثقيف ومكاشفة، لم يكن العالم يحلم بكل هذه المنجزات الإنسانية قبل ثورة الاتصالات الحديثة وما قدمته للإنسان من تقدم في كل المجالات. • إشرافك على تحرير الملحق الثقافي في مجلة «اقرأ».. هل حقق شيئا من أحلامك؟ نعم، حقق الكثير من أحلامي وأحلام جيلي؛ لأن إشرافي على الملحق الثقافي في ذلك الوقت لم أستغله لنشر قصصي واستدعاء نقاد مقربين يكتبون عنها، كما فعل البعض من المشرفين على الملاحق الثقافية في صحفنا وما زالوا. كان الملحق يشرع نوافذه لكل مادة كتابية متميزة بدون تحيز ومجاملات مجانية لاسترضاء قريب أو صديق، وللأسف أن المجاملات الشخصية تفشت في واقعنا الثقافي الحالي أكثر من ذي قبل، وأصبح معظم ما ينشر في صحافتنا الثقافية يتسم بالركاكة والافتقار لأبسط مقومات الكتابة الأدبية والثقافية، ولا يصلح نشره حتى في صفحة القراء. • بالرغم من محاولاتك في تحريك الساحة الثقافية، إلا أننا نجدك مقلا في ممارسة ذلك كتابيا؟ هذه تهمة لا أنفيها عن نفسي، ولكني أحاول تجاوزها لنشر ما لدي من قصص قصيرة بدأتها بانجاز مجموعة قصصية سترى النور قريبا إن شاء الله. • إلى أي مدى تكون الرقابة الذاتية في كتابة النص مهمة لصياغة ناجحة؟ الرقابة الذاتية في مجال الكتابة الإبداعية هي رقابة فنية أكثر من كونها رقابة تحسب لسطوة المجتمع ومدى ردة فعله، المبدع الحقيقي ليس واعظا يكتب لأجل استرضاء فئات اجتماعية فضلت الجمود وعدم المساس بالواقع المعاش، لأن المبدع هو القادر دون غيره على طرح الأسئلة الصعبة بل الصادمة، وليست مهمته التضليل والتطبيل لقيم متخلفة وبالية تجاوزتها أزمنة التطور والحضارة الإنسانية. • «رياح وأجراس» تشير بشكل مرمز وخفي إلى القطيعة المعرفية بين المثقف ثفافة عالية وبين واقع محبط.. هل هكذا الرياح والأجراس؟ نصوص «رياح وأجراس» كتبتها في فترات زمنية متباعدة ومختلفة، بعض القصص التي ضمتها هذه المجموعة كتبتها قبل ثلاث سنوات وبعضها قبل عشر سنوات، وهناك قصة ضمن المجموعة بعنوان «عن قرية هجرتها شاحنات القمح» كتبت عام 1976م، بمعنى أن هذا التباعد والتقارب الزمني كان يعبر عن مراحل انتقالية عشتها بكل صخبها وهدوئها وترسخت في ذاكرتي وفي ذاتي، وعبرت قصة «أجراس» كما قال عنها أحد النقاد عن قطيعة مؤلمة لمثقف يعيش وسط مجتمع مغلق منكفئ على خصوصية وهمية ومعزول عن بقية العالم، رافضا التفاعل والاعتراف بمنجزات الآخر بكل تعنت وتطرف، مفضلا خيار الجمود خارج «رياح» التغيير. • «الوجود والعدم.. لسارتر»، «تدهور حضارة الغرب.. لإشبنغلر»، «هكذا تكلم زادشت».. وغيرهم ممن ذكرت في القصة.. هل هي إشارة إلى الكتب التي تأثرت بها في بداياتك؟ ولمن تقرأ الآن؟ هذه الأسماء وردت كلها في قصة «أجراس»، وهي أسماء لكتاب عالميين كبار دخلوا إلى التاريخ الفكري والإبداعي من أوسع أبوابه، وقادوا حركة التنوير والتغيير في العالم كله، وأثرت مؤلفاتهم في تشكيل رؤى جديدة ومثرية في العصر الحديث، وقد قرأت كتبهم منذ أكثر من ثلاثين عاما وتأثرت بها، بل تأثرت مختلف الأجيال بتلك المؤلفات العظيمة. أما قراءاتي في الوقت الحاضر فهي متعددة، تتراوح بين قراءة بعض الكتب الصادرة حديثا، وإعادة قراءة بعض الكتب القديمة المتوافرة في مكتبتي. • خمس رسائل لمن توجهها؟ إلى محمد الثبيتي: أتمنى لك الشفاء العاجل وعودتك لمحبيك. إلى فائز أبا: طالت الغيبة. إلى عبد الله مناع: ما زالت ذاكرتي تحتفظ بوهج الزمن الجميل في عهدك الأجمل في مجلة «اقرأ». إلى عبد الله باخشوين: أيها الصديق العاق، أين أنت؟ بصراحة: وحشتني كثيرا وكثيرا. إلى جبير المليحان: أشتاق لرؤيتك كلما تذكرت اللقاء الحميم الذي تم في مدينة جازان في ضيافة الشاعر الكريم عبد الرحمن موكلي. فهد الخليوي • القصيمالرس 1946م • النشاطات: * الإشراف الثقافي في مجلة (اقرأ) السعودية فترة الثمانينيات. * كتب العديد من القصص القصيرة والمقالات النقدية والاجتماعية في الصحف السعودية. • الإصدارات: * مجموعة قصصية صدرت عن النادي الأدبي في حائل ودار الانتشار العربي بيروت 2008م، بعنوان «رياح وأجراس». * مجموعة قصصية ثانية ستصدر قريبا. * مخطوطة لرواية. • المشاركات: * أمسية قصصية في نادي الدمام الأدبي 26/8/2008م. * أمسية قصصية في عدن ضمن مشاركات الأيام الثقافية السعودية في اليمن27 فبراير 2009م. * أمسية قصصية في نادي جازان الأدبي 20/5/2009م. * أمسية قصصية في نادي الباحة الأدبي 26/7/2009م. * أمسية قصصية في نادي حائل الأدبي 3/1/2010م. * أمسية قصصية في نادي جدة الأدبي 23/2/2010م