استطاع الناقد محمد الحرز أن يثير جدلا واسعا وأن يلامس أكثر الموضوعات حساسية لدى قراءة ورقته النقدية حول الوعي التاريخي التي ألقاها في ملتقى الأربعاء في مجلس صادق المعيلي في الهفوف، ورغم أن الورقة قرأت في ربع ساعة إلا أن الأسئلة والمداخلات التي امتدت لساعتين أصبحت هي الأمسية الحقيقية، وقد تعمد الحرز أن يثير تساؤلات استفزازية رغبة منه في الدخول في حوار ساخن مع الحضور حيث قال: ان ما يهمني بالدرجة الأولى - وأنا أتحاور معكم هذه الليلة _ هو تقديمُ شهادةٍ ذاتيةٍ تعكس بصورة أو بأخرى تأملاتي وقناعاتي وتحولاتي الفكرية والثقافية والأدبية والعقائدية التي حكمت مسار تجربتي الحياتية وقال في ورقته والتي عنونها ب ( نحو قراءة واعية للمعرفة التاريخية) إن هذه التحولات بدأت معه منذ أن تولد لديَّه إحساسٌ عميقٌ يفضي إلى فهم وإدراك الأشياء من حوله، فهم الحياة والبحث عن معنى لها ليس من بطون الكتب فقط , وإنما من خلال تأمل الحياة ذاتها وما يجري فيها من أحداث وتقلبات , فهم وتحليل العلاقات الاجتماعية باعتبارها مجموعة من العادات والتقاليد والموروثات العقائدية والفكرية والنفسية والسياسية والاقتصادية التي تمتدُّ جذورها إلى عمق التاريخ, وفهم القيمة الحقيقية للإنسان خارج نطاق كل تصنيف قومي أو طائفي أو قبلي. الخلل والحوار الثقافي وأشار الحرز إلى إن الأهمية التي سوف تكتسبها هذه الشهادةُ من خلال سردها بأسلوب حميميٍّ تنبعُ من ضرورتين : الأولى تتعلق بالخلل الثقافي الذي يخترق حياتنا العربية الراهنة, والثانية تعنى بالحوار الثقافي بين الأجيال داخل أطياف المجتمع الواحد، فما يخص الخلل الثقافي فأهم سماته هو فقدان روح المسؤولية الأخلاقية والفكرية لدى أغلب النخب العربية وذلك حينما تتسم مواقفهم بالازدواجية والتناقض والمراوغة رغبة منهم في تحقيق منفعة آنية أو مصلحة دنيوية, وليس هذا الكلام من قبيل التجني أو رمي التهم جزافا, ولكنه الواقع المرُّ الذي أتيقن من رسوخه كل يوم من خلال وسائل الإعلام والفضائيات والانترنت والتصريحات والتحليلات الساذجة أحيانا والظلامية أحيانا أخرى, وألمح الحرز إلى أن الثقافة النقدية تحولت لدى بعض النخب المثقفة التي تعيش في قلب المدن المتنورة من الوطن العربي إلى مجرد رافعة يعلقون عليها خطبهم الرنانة وشعاراتهم الجوفاء, وتساءل الحرز في ورقته، أليس هذا الوضع يمثل تماما وضع المجتمع الأحسائي في لحظته الراهنة ؟! أليس هذا الوضع يشير إلى درجة من التخلف قد تختلف غاياته أو أهدافه أو أسبابه من مجتمع عربي إلى آخر , لكنه في نهاية المطاف يؤكد على حقيقة التخلف بوصفه تراكما يتوارثه جيل بعد جيل أما الضرورة الثانية فإني أجدها في غاية الأهمية كونها تؤدي بنا إلى تفعيل دور الحوار الثقافي بين الأجيال داخل أطياف المجتمع الواحد. ويلقي الحرز سؤالا أكثر جرأة فيقول: أليس من الأولى لنا جميعا نحن أبناء المجتمع الاحسائي أن تكون أفكارُنا وقناعتنا وآراؤنا واضحةً للعيان وضوح الشمس في رابعة النهار كما يقال؟ , دون أن يتلبسها نوعٌ من الغموض أو المهادنةٍٍِِ أو الرهاب النفسي الذي هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لأسباب من أهمها بعضُ الممارسات التعسفية التي يقوم بها أدعياء الثقافة والفكر والأدب ضد براءة كلِّ رأيّ أو قلمٍ أو حوار , أليست الثقافة عند المجتمعات المتحضرة تتسم بالحوارية الفعالة طالما لم يزل أبناؤها ورجالاتها يطرحون مشاكلهم وأسئلتهم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية على بعضهم البعض دون عوائق نفسية أو ظواهر تاريخية احترابية مزمنة. وحول وعيه بالتاريخ أشار حسب قناعته إلى أن التاريخ يمثّل سلطة تخترق الإنسان من العمق غايتُها تحويلُ الإنسان إلى مجرد أوهام وأنصاف حقائق !!, والمجتمع الذي لا يستطيع أن يكتشف آليات العمل هذه وانعكاساتها في مظاهر السلوك والكلام والعلاقات الاجتماعية والموروثات العقائدية والروابط الأسرية, أظنه بالتالي يظل مأسورا لأوهام تاريخه حدَّ النخاع، إن الهاجس التاريخي هو الرهان الحقيقي لأي أمة تريد النهوض من ركام الماضي, وكذلك الرهان لتحقيق أي وعي مستقبلي لها.