عزيزي رئيس التحرير على شاشات بعض القنوات الفضائية العربية نشاهد للأسف ومن خلال بعض البرامج الحوارية ما يجعلنا نأسى لحال أطراف النقاش فيها مما نرى من تشنج محموم وصراخ لا يليق بالموصوفين بالثقافة والعلم ومقاطعات واستفزازات لا تليق بنا نحن ذوي الارث الكبير من آداب الحوار والانصات التي يزخر بها تراثنا الأدبي الكبير. نحن أحق الناس بالتزام الأدب الجم اذا ناقشنا او اردنا ايصال فكرة معينة لمن نحدثهم وكما ان ادارة الحوار فن فإن الانصات فن ايضا وله قواعده. لذلك ينبغي ان يعرف كيف يكون منصتا جيدا وكيف ينجح في ادارة أي نقاش من خلال مهارات الانصات لمحدثه. ويغنينا عن أي كتاب أياتنا واحاديثنا لو تدبرنا، فقد ورد في الحديث عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم، يتألفه بذلك، وكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أنني خير القوم. ان افتقار بعض الناس لمهارة الانصات يجعل ما يقوله المتحدث غير مفهوم أو غير واضح بل ويؤدي الى سوء فهم كبير احيانا بين المتحاورين حتى لو كانوا اصدقاء أو حتى ازواج. والمستمع الفذ هو من يبدي ارتياحا اذا أخذ دور المستمع في اي حوار يدخل فيه ولا يتشاغل عن محدثه ولا يقاطعه ولا يسمح لرأيه الشخصي بمن يحاوره بالتأثير في ارائه في موضوع النقاش ويصغي بهدف فهم واستيعاب ما يقال وليس ليتصيد الأخطاء أو بهدف نقض الرأي الآخر، ثم هو لا يصدر احكاما مسبقة على ما يسمع وقد قيل في وصف مستمع جيد (تراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به). ويحضرني معنى أخذته من آيات من سورة الكهف ولا أرد الخطأ فيه الا لقلة العلم وربما تسنى لأحد المختصين في علم التفسير ان شاء الله تمحيصه ألا وهو أن العبد الصالح اذ يحاور موسى ويبين له ما أشكل عليه في الحالات الثلاث التي لم يصبر موسى عليه السلام عن السؤال عنها قبل ان يأذن له وكان يورد اولا امرا يجعل الحالة تبدو اكثر اشكالا وتزيد الحيرة وذلك قبل ان يشرع في الاجابة عن الاشكال فمثلا قال عن السفينة اولا أنها كانت لمساكين وهذا سبب ادعى لعدم خرقها لكنه خرقها حتى لا يأخذها الملك لوجود عيب فيها وقال عن الغلام الذي قتله أولا أن أبويه صالحين وهذا سبب ادعى لعدم قتله وقال عن الجدار الذي أقامه إن تحته كنز وربما كان في هذا ذريعة اخرى لاعتراض موسى. ربما كان الأمر لتعليمنا الصبر عند الاستماع الى أن ينهي المتحدث كلامه خصوصا في مجال التعلم. وقد كنت استمع الى بعض العلماء فكان يسؤني حقا مقاطعته من قبل بعض طلابه وتعجلهم في الحكم على الكلام قبل تمامه وكان صبورا جدا اذ كان يطلب منهم انتظاره الى ان ينهي كلامه حتى يفهموه فهما مجملا وصحيحا ولا يخطئون الفهم بتجزيء الكلام. لقد ابتلينا بإيثار الكلام على الصمت في نقاشاتنا حتى أصبحنا كلنا منظرين ومتكلمين ومعلمين وفقدنا لذة الاستماع الى الآخرين وقراءتهم فيما يقولون ولذة التعلم في كل هذا. وثمة امر مهم وهو التفريق بين السماع والانصات فليس كل مستمع هو منصت، اذ ان المنصت هو الذي يفهم الكلام الذي يسمعه ويربطه مع ما سبقه، وقد حدث أن عالما أراد أن يتبين ان كانت جموع المصلين في مسجد كبير في أحد البلاد العربية ينصتون للقرآن الكريم في الصلاة أم أنه لا يجاوز آذانهم. فلما صلى بهم فجر الجمعة لم يقرأ سورة السجدة في الركعة الاولى كعادة الائمة الآخرين وكما هي السنة وانما بسورة اخرى وكان المصلون قد اعتادوا على السجود بعد الآية الخامسة عشرة اذ هي موضع سجود تلاوة فلما كبر الامام للركوع بعد أن انهى قراءتها سجد أغلب المأمومين وكان في ذلك أبلغ بيان على أن المسلمين اليوم ينفذون الأمر الأول من قوله تعالى: (واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) بينما يغفلون عن الأمر الثاني في الآية وهو الانصات الذي يتم من خلاله التدبر الحق لكلام الله سبحانه وتعالى. ان التركيز في كلام المتحدث ومحاولة فهم ما يقول بدقة هو نتيجة الانصات وهو الطريق الأمثل لنجاح أي نقاش وهو ما نفتقده في اغلب اجتماعاتنا وفصولنا الدراسية وقد يفاجأ معلم بأن كل طلابه يسمعون ما يقول ولكنهم ابدا لا ينصتون اليه. اخلاص النية في النقاش وابداء قدر من الحنان في الاصغاء والمجاملات الصادقة كلها ادوات لادارة حوار ناجح. ان مقاطعة المتحدث تربكه وتقطع تسلسل الأفكار لديه والاصغاء المتمعن يشعر المتحدث بأهميته وأهمية ما يقول بالنسبة الى المستمع. ان الاستماع الوقور يكسب الشخص حقا هيبة وجلالا يجعله يبدو اغزر حكمة بل هو كذلك. وتراثنا الأدبي مليء بما يدلل على أن للصمت حكمة لا يدركها المتكلمون. والمستمع الجيد يكسب قلوب محدثيه حتى وان خالفوه في الرأي بل وقد يوافقونه لمجرد بلاغته في فن استماعه لهم. جعلنا الله ممن يحسن الاصغاء والاستماع ويتأدب بأدب الاسلام في النقاش ولا يتأثر سلبا بمشاهداته للحوارات التي تفتقد الى هذه الآداب ولمن لا يجيدون فن الاصغاء. @@ م. ممدوح محمد بن شمسة