الفساد الإداري يمكن تعريفه على انه كل ما يخالف أنظمة ولوائح العمل المعمول بها في الدولة، ويؤدي إلى فساد البلاد والعباد، وهو آفة إدارية، تنخر في جسد الوطن مخلفة وراءها آثار نفسية واجتماعية واقتصادية وأمنية أكبر من أن تذكر على ورق، إنها تعني بمفهوم عام وشامل ومختصر (الأنانية وغياب المسؤولية) فلماذا وكيف وصلت إلينا؟ من المتسبب؟ ومن المتضرر؟ إلى أين ستوصلنا؟ ما الحلول الكفيلة بالقضاء عليها؟ هذا ما نحاول استعراضه عبر هذه المقالة. يلعب سعادة المدير غير الكفء علمياً وعملياً دوراً كبيراً مؤثراً في عملية الفساد الإداري، بل هو نواة هذا النوع من الفساد، والعصب المحرك له، لطبيعة المنصب الذي يشغله، وصلاحيات العمل التي بيده. فأنت مدير (مسؤول) يعني في رأيك الخاطئ أن لك حقوقا وميزات وظيفية خارجة عن نطاق اللوائح والأنظمة، أي التنصل من هذه القوانين والأنظمة والضرب بعرض الحائط بكل ما هو وطني وإنساني واجتماعي وإداري، في سبيل تحقيق مصالحك الشخصية، وإرضاء لنزواتك وطموحاتك، وهناك أمثلة كثيرة لهذه المخالفات والتجاوزات، نورد أكثرها علانية و شيوعاً، وما خفي اعظم: التأخر عن الدوام الرسمي بصورة يومية، فهو آخر موظف يصل وأولهم خروجاً، التغيب عن العمل، بدون احتسابه ضمن الإجازات الرسمية، وبدون إبداء أي عذر، كما هو متبع حسب النظام، الخروج أثناء وقت الدوام الرسمي في أي وقت يشاء، تخطي القوانين والأنظمة لخدمة مصالحه الشخصية، كلمته هي العليا، ويجب أن يطيعها كل موظف، ورأيه فوق رأي الآخرين، حتى لو كان خاطئا، استغلال الموظفين لإنهاء مصالحه الشخصية أثناء وقت العمل الرسمي... الخ. يبرز لنا هنا سؤال مهم، هو ما الذي ساعد على وجود هذه الظاهرة الإدارية السلبية غير النظامية وغير السلوكية عند بعض المسئولين؟ في الحقيقة هناك 3 عناصر رئيسية، متداخلة بعضها مع البعض، ساعدت على بروز هذه الظاهرة، وهي المدير (ثقافته العلمية والعملية والإدارية وسلوكه الاجتماعي)، العادات والتقاليد، الأنظمة والقوانين: أولاً: المدير: 1- غياب الوازع الديني والحس الاجتماعي والوطني عند البعض. 2- تدني المستوى الثقافي والعقلي. 3- الشعور بعقدة النقص، فيعوض هذا النقص بفرض الرأي والتحكم، حتى لو كان رأيه غير صائب. 4- الشعور بالزهو والغرور وكبرياء وعظمة المنصب، مما يجعله لا يرى حقائق الأمور. 5- عدم أهليته العلمية والعملية للمنصب، حيث إن بعضهم وصل إليه بحكم الأقدمية في العمل، أو بحكم المحسوبية والواسطة. 6- الشعور بأن المنصب هو حق شرعي مكتسب له، لا يحق لأحد أن ينازعه فيه، وله حرية التصرف حسبما يشاء. ثانياً: العادات والتقاليد : عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية ومستوى ثقافتنا وفهمنا وتفسيرنا لبعض الأمور، تساهم في أحيان كثيرة بشكل أو بآخر في خلق وتشجيع ظاهرة وجود مسؤول بدون مسؤولية. ثالثاً: الأنظمة والقوانين: 1- القصور والعجز في تطبيق الأنظمة واللوائح، لتجاوزات ومخالفات هذا أو ذاك المسؤول. 2- الثقة العمياء التي منحها النظام للمدير، لدرجة الرقي به إلى منزلة الملائكة في مستوى الطاعة والنزاهة. 3- غياب المراقبة الإدارية الفاعلة على المسئولين، مما شجعهم على التمادي في مخالفة القوانين. 4- القصور والعجز في اختيار المديرين الأكفاء، والاعتماد على المحسوبية والمصالح الشخصية. 5- قصور نظام التقييم والاعتماد على الشكليات، بغض النظر عن المضمون. 6- ترسيخ فكرة بأنه لا يحق لأي شخص توجيه أي اتهام لأي مسؤول أو حتى مجرد التفكير بذلك، ومن تسول له نفسه فعل ذلك يلاقي كل أنواع العقوبات، ويصبح المجني عليه هو الجاني. 7- تحويل المنصب الإداري إلى إرث يتوارثه المسؤولون، بغض النظر عن تجاوزاتهم وعدم كفاءتهم. هذه هي الأسباب الرئيسية لظاهرة الفساد الإداري، وأبرزها اللوائح والأنظمة، للدور الكبير الذي تلعبه في انتشار هذه الظاهرة في مجتمعنا، فأصبح بعض مديري مؤسساتنا مسؤولين بلا مسؤولية؟ يتخبطون في قراراتهم الإدارية لعدم كفاءتهم... نعم، إنها اللوائح والأنظمة، وبعبارة أصح إنه نحن، الذين حولنا هذه اللوائح والأنظمة بكل أسف إلى عملة ذات وجهين، أحد وجوهها خاص بالمدير، ومن يسايره من موظفين، ومن يعز عليه من أفراد عائلته وأصدقائه وزملائه، والوجه الآخر من العملة خاص لبقية الموظفين والمراجعين، هذا هو الواقع المؤلم الذي نعيشه. فهل سمعت في حياتك بأن مديرا ما في مؤسسة ما قد تمت معاقبته لتجاوزه حدود عمله؟ فأنا شخصياً لم أر ولم أسمع! لم أسمع بمدير تم الخصم عليه لأنه كثير التأخر عن موعد الدوام الرسمي، ويخرج وقتما يشاء... لم أسمع عن مدير تمت معاقبته لتقصيره في أداء عمله، أو لتأخره، أو تغيبه عن العمل... لم أسمع عن مدير تم تجريده من منصبه لتجاوزه القوانين واللوائح النظامية... ولكني سمعت بأنه في اغلب هذه الحالات إن لم يكن معظمها عندما يحدث سوء تصرف أو تقصير إداري من أحد هؤلاء المسؤولين، فإن اشد عقاب سوف يطبق عليه (إذا كان هناك عقاب!) هو لفت نظر شفهي مؤدب، وفي أسوأ الأمور- وهي نادرة وعندما تفوح رائحة تجاوزاته فإنه يتم نقل هذا المسؤول من مكان عمله إلى مكان آخر، على نفس المنصب والصلاحيات الإدارية، أي أننا نقلنا المشكلة من مكان إلى مكان آخر ( وأحيانا يكون هذا النقل من صالحه، أي يكون مكافأة اقرب منه إلى العقاب)، وكأن الإدارة إرث له. ولكن لو قلبنا الصورة، وحدث أن كانت هذه المخالفة صدرت من موظف بسيط، فإن جميع اللوائح والأنظمة سوف تطبق عليه بالحرف الواحد، وقد يزاد على ذلك اجتهادا من باب الردع. نعم هذه هي الموازين والقيم الإدارية عند بعض إداراتنا. فأي عمل إبداعي في إدارة ما من أي موظف يتم نسبته وتوجيه خطابات الشكر والثناء والتقدير إلى ذلك المسؤول، ولكن أي تقصير في عمل هذه الإدارة يتم نسبته وتوجيه دائرة اللوم والعقاب قبل العتاب إلى ذاك الموظف البسيط. وأرجو أن لا يفهم من حديثي بأنه مسألة تحامل على هذا المسؤول أو ذاك، طبعاً هذا غير وارد، ولم ولن يكون القصد، ولكنني أتحدث عن شخص يمثل النظام والقانون... بيده مصلحة الوطن والمواطن... منح الثقة وحمل الأمانة... شخص من المفترض منه ان يكون قدوة حسنة، فإذا أخل بالنظام، وتهاون في تطبيق اللوائح فالكل سوف يحذو حذوه، ويكون الوضع كما نقول في البيت الشعري المشهور: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص نعم إن الموضوع أبعد وأشمل من ذلك، فهو يعني الكثير على أمن واستقرار واقتصاد الوطن والمواطن، على المدى القصير والبعيد. تصور نفسك وما أكثر الأمثلة - أن مديرك يُعلمك ويذكرك ويحذرك - وبصورة يومية - بتعاميم وقرارات نظام العمل والعقوبات التي تنص على مخالفتها، ويحاسبك على أية مخالفة لهذا لنظام صدرت منك، مرة بغير قصد أو بقصد، وفي نفس الوقت هو نفسه يمارس هذه المخالفة وبصورة يومية، فما هي ردة فعلك في هذه الحالة؟ لا شك بأن هذا التصرف سوف يؤثر سلباً على مستوى كفاءتك الإنتاجية للعمل الذي تؤديه، بالإضافة إلى الأثر السيئ الذي سوف يتركه على نفسيتك في تعاملك في حياتك الأسرية والاجتماعية. أن حكومتنا الرشيدة تنبهت لتفشي هذه لظاهرة غير الصحية، وخطرها على أمن وأمان الوطن والمواطن فأتت بالحلول الكفيلة للقضاء عليها بعون الله ثم بفضل المخلصين من أبناء هذا الوطن الشامخ، فكانت فكرة (مشروع الإصلاح الإداري)، الوثبة الرائدة لحل هذه المشكلة. والنقطة الأولى الجوهرية التي يجب أن نأخذها في اعتبارنا عند التفكير في أية عملية إصلاح إداري هو التركيز على إصلاح قمة الهرم الإداري، ألا وهو (المدير)، وليكن هو هدفنا الرئيسي لهذا الإصلاح، وإلا ستبقى المشكلة قائمة، وخطرها سيتفاقم على المدى البعيد، لدرجة أن الحلول المتوفرة لدينا اليوم لا يمكن أن تجدي غداً عندما يستفحل المرض، ولدي بعض الاقتراحات في هذا السياق: 1/ أول خطوة عملية يجب علينا اتخاذها هو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بغض النظر عن أصله وفصله ونتبع سياسة (كيف وصلت لهذا المنصب ؟!) أهي الجدارة العلمية والعملية أم المحسوبية والمصالح الشخصية؟! 2/ التخلص من عقدة أن المدير (المسؤول) هو فوق النظام، لا يمكننا تخطئته، ولا يجوز لنا محاسبته ومسائلته نظامياً عن تقصيره الإداري. 3/إعطاء دورة تأهيلية للمديرين، لتثقيفهم إدارياً ووظيفياً بطبيعة عملهم وعظم المسؤولية الوطنية والاجتماعية الملقاة على عاتقهم، وأهمية تطبيق لوائح وأنظمة العمل المعمول بها على أنفسهم، قبل تطبيقها على الموظف من باب لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم 4/ تطبيق العقوبات المنصوص عليها في اللوائح والأنظمة المعمول بها في الدولة بالعدل والمساواة على جميع الموظفين، بغض النظر عن مركزهم الإداري والاجتماعي، ولنبدأ بالكبير قبل الصغير. 5/ تفعيل عمل هيئة الرقابة والتحقيق، بحيث لا يقتصر عملها فقط على مراقبة ومحاسبة صغار الموظفين والتغاضي والتجاوز عن التصرفات غير المسؤولة من ذوي المناصب، إننا لا نريد إيجاد هيئة رقابة وتحقيق أخرى لمراقبة عمل (هيئة الرقابة والتحقيق). 6/ تشديد العقوبات على المديرين المخالفين للأنظمة واللوائح والتشهير بهم. 7/ فتح خط هاتفي ساخن مباشر في جميع وزارات وهيئات الدولة - وقبل ذلك فتح القلوب - لتلقي الملاحظات، فيما يخص تجاوزات المديرين والتعامل مع هذه الملاحظات بكل شفافية، وأخذها بعين الاعتبار، والعمل على التحقق في الأمر وليس معاقبة من يبديها. وإنني أعلم جيداً بأن هذه السطور القصيرة والكلمات المقتضبة لن ترضي بعض المديرين غير الأكفاء فقط الذين هم أقل من المنصب الذي يشغلونه، وقد يفهمها البعض الآخر بصورة خاطئة، لأنها خرجت عن كلمات الإطراء والمديح والثناء والتبجيل الذي ألفوه وينشدونه... أن مقالتي هذه تحدثت عن الواقع الذي لا يريدون له بزوغاً، وفي الحقيقة أن هذا الفهم الخاطئ من هؤلاء لا يعنيني ولا يهمني ولا يشغل بالي، لأن حديثي هو حديث أمن وأمان وطني، وهو حديث ذو شجون للجميع، وانني على ثقة ويقين بأنه سيلاقي صدراً رحباً من لدن أشخاص ذوى عقول راجحة وقلوب نيرة، يضعون مصلحة الوطن والمواطن فوق كل شئ، تجسيداً للمعنى الحقيقي للمواطنة الصادقة، كما أوجزها لنا صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني، التي ألقاها في إحدى المناسبات (... إن شرف المواطنة ليس هوية يحملها هذا وذاك، بل هو تزاحم المناكب في العطاء، وتحمل المسؤولية، وقبل ذلك الإخلاص لله ثم الوطن في السر والعلانية)، هذه الكلمة العظيمة موجهة إلى كل مواطن، فلنعيها عقلاً وروحاً وتطبيقاً، ولنترك الفردية والمحسوبية، ولنفكر بالوطن بشمولية، فهو بمثابة الجسد الواحد، إذا تداعت منه إدارة أو هيئة أو مؤسسة بالفساد تداعى معه لا سمح الله بقية أجزاء الوطن بجميع مؤسسات وطبقاته وعاداته وتقاليده. إن الإصلاح الإداري دعوة صادقة، من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فلتتكاتف القلوب قبل الأيدي، للعمل على إنجاحه وتفعيله، والحزم في تطبيقه والاستفادة من الدروس السابقة بسلبياتها وإيجابياتها، وإلا سيبقى هذا المشروع مجرد حبر على ورق... جهود صادقة ذهبت سدى... أمل وأمنية وحلم لم يتحقق. د. احمد عبد الله العبيد