محمد بن عبدالعزيز عبدالرحيم رجل خفي.. واخوانه عبدالجبار، عيسى، ابراهيم.. هم كلهم رجال خفيون.. محمد رجل خفي، موجود وليس موجودا، حاضر وليس حاضرا يتنسم الهواء، ولا تعترف به الارض التي يمشي عليها... محمد بن عبدالعزيز عبدالرحيم مسجون وهو خفي.. سجنه بلا قضبان ولن ترى سجنا مفتوحا بهذه الرحابة، وبهذا الضيق في آن.. محمد رجل لن تجده في أي مكان.. بل نراهن على ان تجده على أي ورقة رسمية، او أي ورقة تتطاير مع الاوراق التي تحملها الرياح. محمد عبدالعزيز لا يستطيع ان يباشر حياته في العلم، في العمل في الزواج.. ولا في اي شيء.. لماذا؟ قلنا لكم: هو غير موجود، كيف يتسنى لغير الموجود.. ان يفعل ما يفعله الموجودون.. مستحيل! محمد عبدالعزيز موجود كما اراده الله بلحمه وعظمه وملامح على وجهه فقط لا يحمل وثيقة واحدة تؤهله لان يكون موجودا.. اراده الله انسانا موجودا.. وارادت انظمة الارض ألا يوجد.. منتهى الحق يأتي من السماء.. بينما المحق يأتي من الارض. جاءنا محمد عبدالعزيز وحتى يصل الينا.. او الى اي مكان فهو يركب الصعاب، ويعتلي المغامرة رجل يمشي بلا هوية.. بلا جنسية.. ينتمي الى الارض التي عاش فيها ما يقارب كل عمره.. خمسين عاما.. ولم تؤهله هذه الاعوام، آلاف الايام لان يكون موجودا ومعترفا به. ولما وصل الينا.. اصر على المقابلة، اصر ان يقول له احد انك موجود.. انت انسان بكامل اهليته.. لم يعد يصدق ذلك، او انه غرق في التيه واللا وجود فلم يعد يؤمن بالواقع.. وحاولنا ان نوقظه ان نربطه بواقعه.. ولكن ضاعت محاولاتنا كنا نحصد الهواء، ونقبض السراب.. لان محمد عبدالعزيز مازال بالفعل مجرد كائن هوائي.. وجود سرابي، تلمسه ولا تجده، وتقبضه فيتلاشى ضبابا.. بخارا.. لم يبق لنا الا ان نروى قصته، قصة من اغرب القصص التي يمكن ان نواجهها في حياتنا، وفي مجرى واقعنا قصة كما قال العرب الفصحاء (تشيب لها الغربان). اني اتوجه الى الله اولا ثم الى كل صاحب قرار ان نعمل شيئا في مقدورنا ان نفعله ان يسجل شخص له هوية له رقم، له وجود، له عنوان.. لم يبق له سوى عقل يفور كل يوم.. وقلب مزقته الجراح.. ودموع جفت منذ زمن.. وارجو منكم كل من يقرأ حكاية ألم الا تكون موجودا، ان تكون نكرة ان تكون مجرد لاشيء والله خلقك في احسن تقويم، وتنتمي الى فصيلة كرمها الله منذ يوم الخلق العظيم.. ارجو منكم ان تدعو له.. وهاكم القصة: قبل خمسين عاما كان الخليج لم تصله بواكير المدنية بعد، وبالذات في المشايخ المحمية على الخليج.. كنا يعيش مع عائلته عبدالعزيز عبدالرحيم عيشة ضنكة، ضيقة في احدى هذه الامارات.. كانت قرية صيد اسماك صغيرة، مجدبة يهاجر من فيها دوما الى الشمال.. وبالذات الى المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية حيث كانت الحال على ابتداءاتها افضل ولا تقاس بالحالة المعاشية في تلك المشيخة الصغيرة السادرة.. وصل عبدالعزيز بالفعل مع عائلته زوجته واولاده الاربعة وكان محمد آنذاك طفلا صغيرا لا يعي هو اكبرهم. وصل عن طريق البحر الى ميناء الدمام في الشهر الحادي عشر من العام 1372هجرية (1951م) وكتبت على ورقة من جواز له صادر من امارة عجمان (قدم الى المملكة العربية السعودية عن طريق ميناء الدمام البحري في 16/11/1372ه).. وكأن هذه الجملة تحكي كل باقي حياته.. فهو بعدها لم يخرج ابدا من المملكة.. ومكث بها يعمل، ويسترزق من معارفه واهله من مواطني الامارة، وبينما بادر معظمهم (او كلهم) الى التحويل الى الجنسية السعودية، وكانت وقتها ابسط اجراء.. لم يع عبدالعزيز عبدالرحيم هذا الواقع الهائل.. ولم يعمل شيئا له، ولا لاولاده لتبدأ قصة من احزن القصص نعم هناك من يموت جوعا، ومن يموت قهرا، ومن يموت غدرا.. ولكن ان تموت وانت حي.. أو ان تحيا وانت ميت.. ان تكون بلا هوية، بلا قدرة، عار تماما مجرد من أي شيء.. فهي من حكايات الاساطير والخرافة.. الا انها تحصل كل يوم مع محمد عبدالعزيز واخوانه. مات الاب العجوز بعد مرض.. ووقفت الاعانات والاسترزاقات التي كان ينالها الاب العجوز من زملائه ومعارفه.. وراحت جهود الابناء هباء منثورا في ايجاد اي فرصة للحياة الكريمة.. على ان الام عرفتها نساء الحي، وعرفن ظروفها فبدأن يبعثن لها بالكاد ما يقم الاود.. وتصور رجال بلغوا حدود الكهولة تعولهم ام يعولها آخرون.. لن اصف الشعور كفى! ويقول المصريون (رضينا بالهم، والهم مارضاش بينا) ولم يصدق هذا المثل مثل ما صدق مع محمد واخوته.. ماتت الام التي كانت تدعو الله ليل نهار قائمة قاعدة بأن يمن الله عليها بحفيد.. كيف؟! فالخفيون لا ينجبون! ماتت الام بعد ألم ومرض عضال.. وموتها حكاية تروى.. فقد كان منتهى آمالها في الدنيا ان تضم حفيدا.. وفي القبر كان هناك طفل ميت.. وضعوه في حضنها.. ودفنوهما معا.. انظر كيف تحيك الحياة خطوط الاقدار! بعد وفاة الام.. حكم على الرجال الكبار بالاختفاء، بعدم الوجود.. وهم يكادون ان يموتوا من الجوع والحاجة.. لا علمهم ينفعهم، لا طاقتهم للعمل تنفعهم.. ولم يكن في مقدورهم الاستعطاء.. لقد نضب كل شيء.. وقف كل شيء بقى ان تقف الحياة! ان لم تنزل الرحمة على الرجل الخفي محمد عبدالعزيز وعلى اخوانه فمتى تنزل من قلوبنا.. ان كان النظام يسحق الادمية بهذا الشكل.. فياله من نظام.. ان نعرف ان رجالا مثلنا، يتكلمون مثلنا، عاشوا على ارضنا مثلنا.. لا يعرفون الا هذا البلد.. وهذا الهواء.. وهؤلاء الناس.. ولا نفعل من اجلهم شيئا.. فاننا اذن موجودون.. ولكن غابت ضمائرنا وارواحنا.. هل ندعهم يموتون؟ وان ماتوا كيف ندفنهم؟ كيف نخرج لهم شهادات وفاة.. هل يسمح النظام لمن لا يحمل هوية (اي هوية) بأن يموت مثل الناس ويرقد التراب! نرفع الامر اولا الى الله في عليائه.. ثم الى سمو الامير نايف بن عبدالعزيز صاحب الضمير الكبير الذي انقذ بقرار منه احد هؤلاء المساكين من الذين جاءوا الينا.. نسأله ان يبادر برفع غطاء الخفاء عنهم.. ان يجعلهم بعون الله يعيشون بقية حياتهم اسوياء، معروفين مثل كل البشر.. نؤمن بالله وقدرته وتقديره ثم نثق بالامير الانسان!