عزيزي رئيس التحرير في خضم الغفلة يدق جرس الصحوة، يقتحم الموت ابوابنا من غير اذن منا فيسل روحا من ارواحنا المتآلفة، ويرحل بها الى عالم آخر، يأخذ بأمر الله جزءا من كياننا اودعه فينا الى حين واجل مسمى لا يستأخر ساعة ولا يستقدم يأخذه الى عالم نؤمن به ونرضى. الوالدان اقرب مافي الوجود للإنسان، اذ هو كيان من كيانهما، خلق من بين صلب الأب وترائب الأم، فهو امتداد طبيعي لهما، لذا فان كل شيء يعوض بفقدانه الا فقدان الوالدين لا يمكن تعويض مكانهما ومكانتهما. باي كلمات اذن ارثيك يا والدي هي ساعة تؤرقني، وذكرى تؤلمني، وبوح اعجز ان ابديه، فانت والدي وشهادتي فيك مجروحة، ولكني اجد في شهادة الناس، ما يستحق النقل والفخر، ومن منطلق:(اذكروا محاسن موتاكم) اذكر محاسنك يا أبي ففيها عزاؤنا وطمأنينتنا. والدي: لقد غيبك الموت عنا، وقد كنت فينا سراجا يضيء عتمتنا, وهالة ضوء يكتنفنا ضوؤها، وظلا وارفا يظلنا، ونهرا صافيا ونبعا عذبا يروي عطشنا، ودوحة عز تجمعنا، وعقالا من الحب يربطنا، ومدرسة حياة فيها تعلمنا ونشأنا. أبتاه: لقد كنت بيننا ملء السمع والبصر والفؤاد، كنا نسعد برؤيتك صباحا ومساء، ونستأنس بحديثك الاسر، يأسرنا حبك، ولطفك، وظرفك لقد كنت نعم الجليس والأنيس، وفجأة دعاك داع لا نملك رده او منعه، فآمنا، وصبرنا وماجزعنا، فلله الحمد على ما قضاه. يا أبتي: لقد ادركك اجلك بعد ان ادركت الثمانين ولم تسأم تكاليف الحياة، وانت الذي قاسيت منذ طر شاربك شقاءها وكبدها، لقد بدأتها بنحت الصخر اذ لم تغرف من بحر، فواجهت شظف العيش بعصاميتك، وشمرت عن ساعد الجد والعمل مبكرا لتكون عونا لابيك الذي فرح بمقدمك على كبر، فصارعت حياة الكفاف لتكفي الوالد مؤونتها، ولترعي من تحتك من زغب الحواصل، حتى اذا ما كبروا كفوك كما كفيت والدك مؤونة الحياة، وبفضل صاحب الفضل والمنه والعطاء جل جلاله القيت عصا السعى في مناكب الأرض وأنعم عليك في ختامها نعيمها. أبي: لقد شهد الناس ان لك من اسمك نصيبا فانت (سالم) سلم الناس من لسانك ويدك، فلم تؤذ احدا بقول، او تبطش، او تعد، وهذا سر حب الناس لك، حتى اذا ما علموا برحيلك هرعوا في قائلة ثاني ايام رمضان الى تشييعك الى مثواك ، ولم يثنهم صومهم، وحرارة الجو عن ذلك، فكانت جموع المشيعين، والمعزين العظيمة في ذلك المشهد الأخير طمأنينة لنا. لم تكن ذا مال، او جاه، أو منصب! فما الذي جاء بهم؟ لقد جاءوا لأنك سالم وواضح المسلك، لم تزخر فك الحياة بزينتها، لقد اتى معزيا الصحيح والسقيم، الشاب والكهل، هذا الكهل الذي يتهادى في مشيته، تتثاقل خطواته، وذلك الذي تحمله عكازتاه، لقد اتوا حبا في من رحل. والدى: من بين المعزين رجل لا نعرفه، وربما لاتعرفه، لعلك التقيته من جملة من تلقاهم كعادتك! لقد راعه منظر جموع المعزين في المجلس، وساقه حدسه ان شيئا ما اصاب هذا (الشايب) الذي يصلي في هذا المسجد! والذي يجلس امام هذا المنزل! لقد اتى وقد صدق حدسه، لعلك يا أبي لقيته كعادتك بعد كل صلاة وسلمت عليه، وسألته للتعرف عليه، ودعوته، وربما ظارفته كعادتك! لقد بنيت لك بذلك في قلوب الناس منزلا أبي: لقد كنا نخشى عليك من سماحتك وطيبتك وظرفك وسليقتك الصافية مع الآخرين ممن تضيق صدورهم عن سماحة وكلمة طيبة ان يساء فهمك فيجرحوا مشاعرك! وأنت لا تأبه بذلك. والدي كم كنت تردد قول الشاعر:==1== المدح للطيب كما الكرخ للموس==0== ==0==لا من مدح قام يتزايد شطاره راعيه ما يذبح طليات وتيوس==0== ==0== ما يذبح الا الحيل من قو باره==2== فالطيب، والكرم، والمعروف، وصلة الرحم، والوفاء، والتسامح والمعاملة الحسنة، وحسن الخلق، واحترام الناس وتقديرهم، وعدم التدخل في شؤونهم، وغير ذلك، تلك قيم ومبادىء نشأتنا عليها، ونسير على هديك فيها. أبي: قبل ان ترحل دعوت الله الا تؤذي، ولا تتأذى، فاستجاب الله لك ذلك، فكان موتك في ثالث يوم مرضك. لقد تذكرت قبل رحيلك بأيام اصدقاءك القدامى. ممن لم ترهم منذ زمن فحرصت على ان تلقاهم واحدا واحدا قدر ما استطعت وقد حققت ذلك. والدي: عبر ثمانينك لم تبد عليك مظاهر الشيخوخة المتعبة لغلبتك عليها (بعون الله) بسماحتك، وطيبتك، وظرفك، لكني رأيتها عليك في يوم واحد فقط، هو اليوم الاخير الذي اسندتك فيه الى وانت تنزل من السيارة، وتصعد درجات المنزل، حينها ادركت شيخوختك ليوم واحد، وكم تمنيت ان اظل تحت قدميك لادرك خدمتك عند الكبر وابرك حال عجزك! ولكنه قدر الله كنت تنظر الي ولم ادرك حينها انها النظرة الاخيرة! انه الامل اذا لم ادر انك لن تنظر الي بعدها ولن انظر اليك الا وانت مسجى. رحمك الله يا والدي رحمة واسعة، وغفر لك وجعلك في روح وريحان في جنات و نعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يارب العالمين. رسائل قصيرة: امي: يا قرة عيني، ويا أملي الباقي، يا شريكة ابي في الكد والكدح شراكة لم تفترق يوما لاجل مصير واحد، وامل واحد، وغرس واحد. امي: أعلم ان فراق رفيق الدرب صعب، فصبر جميل والله المستعان. اخواني: يا نبتة زرعها ابي، وسقاها، ورعاها حق رعايتها فبسقت واينعت، وحصد ولله الحمد زرعه وتفيأ ظله. انتم خير له في دنياه، وآخرته ، وتعلمون ان ابن آدم اذا مات انقطع عمله الا من ثلاث صدقه جارية، او علم ينتفع به، او ولد صالح يدعو له. احفاده: انتم غراس غرسه، وثمرة ثماره وامتداد له.. فاغتنموا من الحياة مادلكم عليه، وما وصاكم به. اخي القارىء: لقد كتبت هذه الاسطر قبل عام ولكن لم احتمل حينها استكمالها، وكم اختلط حبر قلمي بدمعي، وها انذا استكملها بعد مضي هذا العام على وفاة والدي غفر الله له. وهي مشاعر ابن تجاه ابيه، قد تتلمس مشاعركم، واجد فيها شيئا من المشاركة الوجدانية، فأدعوا الله واياي في هذا الشهر الفضيل ان يغفر لوالدي ووالديكم وجميع موتى المسلمين ويسكنهم فسيح جناته. (إنا لله وإنا إليه راجعون). سلمان بن سالم الجمل