استطاع المراقب لمؤتمر المانحين للعراق الذي عقد في مدريد استخلاص حقيقة اساسية شبه مؤكدة تتعلق ببناء الاقتصاد العراقي بعد الحرب، وهى ان سلطات الاحتلال الاميركية تدير المعركة الاقتصادية بنفس الطريقة التي ادارت بها المعركة العسكرية لغزو العراق واحتلاله. فالمؤتمر الذي استضافته اسبانيا الشريك الثالث لاميركا بعد بريطانيا في قرار الحرب لم يكن دوليا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان اميركيا تحالفيا اذا صح التعبير. وجاءت مشاركة كوفي عنان فيه في اخر لحظة بعد صدور قرار مجلس الامن الذي فرضته الولاياتالمتحدة بشأن العراق. ولم تفلح المنظمة الدولية في الحصول على اي قدر اضافي من المسؤولية في اعادة بناء العراق عبر صندوقين انشئا لتجميع أموال إعادة الاعمار والتنمية. صندوق الاممالمتحدة يهدف الى جمع اموال المانحين لانفاقها على مشروعات البنية الاساسية، وهي المشروعات غير الربحية التي لن تنفق سلطة الاحتلال الاميركية عليها سنتا واحدا حتى لو كان موجها لشركاتها لمساعدتها على تحقيق الارباح وتحسين اوضاعها. الصندوق الثاني سيضم اموال المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. اما الولاياتالمتحدة فقد اعلنت إنها لن تضع أيا من الاموال التي اعتمدها الكونجرس للعراق في الصناديق وانها ستتعامل معها في اطار ثنائي، سواء المنح او القروض. ومع تباين التقريرات حول التقديرات المطلوبة لاعادة الاعمار (36 مليارا لنحو 14 قطاعا حسب البنك الدولي، و55 مليارا حسب التقديرات الاميركية التي تقول ان هناك قطاعات اخرى لم يشملها تقدير البنك الدولي تحتاج الى 4ر19 مليار) تباينت التعهدات وسط عدم ثقة في الوضع الامني من ناحية وعدم شفافية سلطة الاحتلال والتكوينات المحلية التابعة لها من ناحية اخرى. وظلت اليابان اكبر متعهد بالمنح حيث وصل اجمالي تعهداتها الى 5 مليارات على مدى السنوات الأربع القادمة، ثم يأتي الصندوق والبنك الدوليين اللذان تعهدا بأكثر من 5 مليارات ثم اوروبا (اتحاد اوروبي ودول اوروبية منفردة كبريطانياواسبانيا وايطاليا بنحو 7ر1 مليار). يضاف الى ذلك 20 مليارا قررت اميركا تخصيصها للعراق، نصفها منح ونصفها قروض. بالنسبة لتعهدات اليابان، يمكن العودة الى مؤتمر منح افغانستان الذي استضافته طوكيو ولم تحصل كابول على ربع ما تم التعهد به حتى الان. اما بالنسب للمؤسستين الدوليتين فموقفهما دائما مطابق لموقف من يملك اكبر اسهم فيهما: الولايات المتحدة الاميركية. اما الاوروبيون، فالدول الرافضة للحرب (كفرنسا والمانيا) لا تريد ان تعطي شرعية للاحتلال بتمويل المشروع الاميركي في العراق، والمفوضية تصر على ان تنفق اموالها القليلة في مشروعات انسانية كالصحة والتعليم ومياه الشرب وتحت اشرافها. دول الخليج عبرت عن استيائها من الضغوط الاميركية التي تطالبها بدفع فاتورة الحرب والاحتلال مجددا، وتصر على الا توفر سوى ضمانات قروض لشركاتها التي يمكن ان تحصل على مشروعات في العراق. اما الاموال الاميركية فنصفها الذي لا يرد سينفق حتما على تكاليف وجود المائة وخمسين الف جندي في العراق، ونصف القروض سينفق على تكاليف مجلس الحكم والحكومة المؤقتة التابعة للاحتلال وعلى تطوير قطاع النفط العراقي الذي تحتفظ واشنطن بعائداته لانفاقها بمعرفتها باتفاق وصاية على العراق وموارده. الا ان كل ذلك مشكوك فيه ايضا، حتى لو تمكنت واشنطن من تأمين القدر الاكبر من المبلغ المطلوب للعراق العام القادم (5ر17 مليار)، في ظل عدم الشفافية في الحسابات ولا معرفة اوجه الانفاق والافضلية المطلقة للشركات الاميركية كهاليبرتون وبكتل وورلدكوم المفلسة. وبدا الاميركيون في مؤتمر المانحين وكأنهم يطلبون الصدقة تحت تهديد السلاح. وانطبق عليهم بحق المثل القائل في مثل حالتهم (شحاذ متعجرف يقول حسنة وانا سيدك).