عند الحديث عن توطين الخبرات وحاجة المجتمع لكوادر وطنية مؤهلة للمساهمة في سوق العمل، والخبرة المحلية هي الاستثمار المستقبلي للأمة وتأهيل الأجيال القادمة هي مسؤولية تقع على عاتق مختلف القطاعات الخاصة والحكومية، وتحديد مسؤولية كل جهة وما يترتب عليها قد يساعد في تحديد آلية وأسس لمعالجة هذه المشكلة يبرز لدينا سؤال هام: من المسئول عن توطين الخبرات؟ هل هي الجمعيات المهنية، أو الإدارات الحكومية، أو القطاع الخاص، أو الصروح العلمية؟ ليست هناك جهة محددة تقوم بهذه العملية كما هي الحال في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن لوجود تعاون بينها وبين القطاعات الخاصة في مجال الدورات التدريبية لإتاحة الفرصة في تقليل الفجوة بينها وبين متطلبات سوق العمل بالإضافة وتساعد في تطوير المقررات العلمية التي هي بدورها تساهم في إعداد الطالب أكاديمياً لمزاولة المهنة دون الاصطدام بواقع سوق العمل، وكذلك شركة أرامكو السعودية لها دور بارز في هذا المجال من خلال إيجاد عدد محدد من العناصر السعودية لدى الشركات التي تتعاقد معها في أعمالها المختلفة بهدف المساهمة في تطوير وتدريب الكوادر الوطنية كواجب وطني من الشركة تجاه الوطن، وهو نفس الوظيفة التي يقوم بها مكتب العمل بتوظيف عدد من المؤهلين لدعم الخبرات الوطنية لكن لا يخلو هذا الأمر من مشاكل تواجهه بما يعرف باسم (الموظف الوهمي) أي موظف في سجلات الشركة أو المؤسسة فقط بينما في واقع الأمر الشخص المسجل يتقاضى الأجر ( أقل من نصف راتب الموظف الرسمي) مقابل تدوين اسمه في السجلات ويتم استدعاؤه في حال حضور مفتشين من مكتب العمل. وللجمعيات المهنية الدور الأكبر في هذا المجال لارتباطها بالتنمية والتطور العمراني وتنظيم قواعد مزاولة المهنة والحفاظ على سلوكياتها وتطوير مستواها ومساهمتها في تبادل الخبرات بين أعضائها، وهي حلقة الوصل المفقودة لكونها الرابط بين مختلف أطياف المهنة الهندسية سواء أكاديميين أو جهات حكومية أو خاصة. ثم لا ننسى تأثير العولمة على توطين الخبرات وأهمية اتخاذ إجراءات تحقيق هذا الهدف قبل دخول المنافسة الأجنبية للأسواق بعد تطبيق اتفاقية التجارة الحرة المعروفة باسم ( الجات) والآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الاتفاقية ومدى أهمية تفاعل المجتمع مع القطاعات المختلفة محلياً وإقليمياً لفهم أوسع لهذه القضية ووضع الآليات التي من شأنها حل هذه المشكلة وحتى يمكن الخروج بتصور واقعي ميداني قمت بإعداد دراسة مسحية ميدانية الهدف منها التطرق لمشكلة توطين الخبرات، أملاً بالخروج ببعض التوصيات التي قد تساعد في فهم ومعالجة أبعاد هذه المشكلة. فقد شهدت المملكة العربية السعودية منذ فترة الطفرة التنموية تسابق العديد من الشركات في مختلف القطاعات لاكتساح سوق العمل المحلية ونظراً لغياب القوى البشرية المؤهلة وقلة مصادرها، تم استقطاب قوى عاملة من الخارج وأصبح الوطن يعتمد على الكادر الأجنبي اعتماداً كلياً في ظل الظروف الصعبة وغياب الرؤى المستقبلية والإستراتيجيات التي من شأنها المساهمة في توطين الخبرة كمكتسب وطني وعماد الاقتصاد المجتمع والحد من هدر وتبديد الثروات الوطنية. ولا تزال دول الخليج تعتمد على العمالة الوافدة بصورة كبيرة، فلابد أن نعترف بالحاجة القائمة الفعلية للعنصر الوطني لشغل سوق العمل في شتى المجالات كمتطلب رئيس هام ويترتب عليه ضرورة توطين الخبرة والمجتمع فأغلب العلوم والمعارف التي يكتسبها المجتمع هي نتاج لخبرة أفراده بل وحتى الأعراف والمكتسبات نتجت عن طريق مزاولة نشاط معين والاحتكاك بذوي الخبرة،( وعلى سبيل المثال لا الحصر) ما يعرف قديما باسم ( البنه) وهو شخص يحترف عملية بناء المساكن التقليدية اكتسب هذه المهنة عن طريق الاحتكاك بذوي الخبرة، فتتلمذ على أيدي اناس سبقوه في مجال البناء ومارس المهنة معهم فأصبح يمتلك رصيداً هاماً ومخزوناً كبيراً من الخبرة والمعرفة مما تجعله مؤهلاً ليمارس هذا العمل، ويقاس عليه المهن الأخرى مثل الحدادة والنجارة والزراعة وغيرها من المهن التي مورست في عهد لم تكن فيه الدارسة الأكاديمية علماً يكتسب في مواقع معينة ومتخصصة كما الحال في أيامنا هذه، فالمجتمع آنذاك اعتمد على سواعد أفراده بصورة كلية بالرغم من بساطة الحياة وصعوبة العيش والحاجة الماسة. أما الآن فقد أصبح الفرد مقارنة بنظيره قبل التنمية الوطنية أكثر مهارة نتيجة ما يشهده العالم من تطور تقني وعلوم حديثة ونظريات قائمة وما تفرضه المنافسة في سوق العمل من متطلبات على الفرد والمجتمع تلبيتها تماشياً مع هذا التطور. لذلك كان المطلب الأهم والأبرز هو الدور القائم في كيفية تأهيل الكوادر الوطنية ودور كل قطاع في تأهيل الكوادر المحلية الذي هو واجب وطني قبل أن يكون أخلاقيا أو اجتماعيا، لأن قوة الوطن تكمن في تسلح أفراده بالتعلم المدعوم بالخبرة والمعرفة، وهذا الدعم من القطاع الخاص هو سداد لما يدينون به لهذا الوطن الغالي المعطاء الذي أتاح لهم الفرصة ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم والسمعة الطيبة في العالم. فمن المسئول عن سعودة الخبرات وإيصالها إلى مرحلة النضوج؟ وللإجابة عن هذا السؤال يجب فهم العلاقة بين الفرد ومختلف القطاعات بالإضافة إلى مسؤولية كل طرف من الأطراف. ذات العلاقة ( الفرد والقطاعات الأخرى) (فالفرد) بعد أن يتشبع بالمقررات الدراسية الأكاديمية يتفاجأ بعد تخرجه أن معظم الفرص الوظيفية المتاحة له عند بدء خطواته الأكاديمية الجامعية قد تلاشت ولا يمكن الحصول عليها إلا إذا كان يمتلك الخبرة والتي قد تصل إلى عدة سنوات، فلماذا توضع هذه العقبات ومن المستفيد منها؟ ندرك أن الفرد يجب أن يقوم بواجبه تجاه نفسه ومجتمعه فلا يكتفي بالجرعات الأكاديمية بل عليه أن يطور ذاته ويواكب كل ما هو جديد في مجال تخصصه ويلم بالتخصصات المرتبطة بمجال عمله لاسيما وأن الأسواق في تطور مستمر لا تتمكن الجهات الأكاديمية من اللحاق بالركب الحضاري والتقدم العلمي، وهذا ليس عذراً أو سبباً يمنع هذه الجهات من المحاولة ولو بجزء يسير من التكيف مع المتغيرات المحيطة بها ولكل مجتهد نصيب. وعندما نتناول دور القطاعات المختلفة وموقفها من سعودة الخبرة نجد أن هناك عدة آراء عن أسباب عزوفهم أو عدم تفاعلهم بصورة تامة مع توطين الخبرة، منها أن هناك قصورا في فهم الطرفين لبعضهما ( الفرد، والقطاع). فالفرد يمتلك عدة مخاوف من العمل في القطاع الخاص مثل عدم ضمان استمرارية العمل لأي سبب من الأسباب والجهة المقابلة مخاوف القطاع الخاص من أن يصبح الفرد منافساً في سوق العمل وذلك بعد أن يفهم استراتيجية عمل هذا القطاع كما هو حاصل في المكاتب الهندسية وهذا من المسلمات. بالإضافة إلى النظرة السلبية والتصور الخاطئ الذي تراكم على مر السنين عن الفرد السعودي في أنه غير مهيأ للعمل في السوق مباشرة خاصة وان الدراسة الأكاديمية هي مجرد تحصيل حاصل يسعى للحصول عليه دون أن يربطه بواقع الحياة العملية، فيلقي باللائمة هنا على عاتق الفرد وكأنه المسئول عن وضع الخطط والمقررات الدراسية. أضف إلى ذلك أن البعض قد يتعذر بمصاريف تأهيل وتدريب الفرد السعودي ومقارنته بالأجنبي الذي يوفر قدراً كبيراً من مصاريف التأهيل لكن هناك مصاريف غير منظورة منها ( بدل سكن- تذاكر- بدل نقل- رخصة - عمل- تأشيرة إقامة- علاج طبي- تأمين. وغير ذلك) تضاف على الأجر الشهري الذي يتقاضاه لكن الصالح العام والأوفر هو العامل السعودي الذي لا يتقاضى سوى مرتبه، أما على الصعيد الجماعي والاقتصادي فالأجانب ينفقون جزءاً يسيراً من مرتباتهم في الداخل أما نصيب الأسد من الراتب الشهري فينتقل على شكل حوالات إلى أوطانهم وهذا هدر للثروة الوطنية بينما العامل السعودي سوف ينفق كل هللة من مرتبه داخل حدود وطنه وستعود بشكل أو بآخر إلى القطاع الخاص إذاً فهو استثمار مستقبلي كما أن تأهيل الفرد لا يقتصر عليه بل يفيد غيره فقد يؤهل مجموعة من الشباب الذين بدورهم يؤهلون مزيداً من كوادر الوطن وبذلك تكون الخبرات قد انتقلت من جيل إلى آخر . لكن لا تزال هناك مفاهيم خاطئة في أذهان البعض سواء اجتماعية أو ثقافية وتغيرت بمرور الوقت والظروف المحيطة مثل عدم الانضباط في العمل والمواعيد أو رغبة حديثي التخرج في الاسترخاء على المقاعد الإدارية الوثيرة أو الأجور المرتفعة التي يشترطها الفرد السعودي ناهيك عن الزي الوطني كعائق وغيرها من الأعذار التي أكل وشرب الدهر عليها ولنظرة المجتمع السلبية أيضا دور فاعل في عزوف بعض الشباب عن كثير من المهن التي يشغلها العامل الأجنبي، لكن ما يثلج الصدر تبدل هذه المفاهيم الخاطئة على الرغم من وجود بعض من أفراد القطاع الخاص يقرون بوجودها ويتخذونها ذريعة لإغلاق الأبواب في وجه المواطنين الراغبين بخدمة البلاد والمساهمة في التنمية الوطنية . أما ما دور الجمعيات المهنية والقطاع الخاص في سعودة الخبرات : فقد يلاحظ البعض تخلي الجمعيات المهنية عن دورها الفاعل في هذا الموضوع (هذا إن وجد أصلا) فالذي نستنتجه من واقع الحال هو قصور تجاه المسؤولية المناطة بهذه الجمعيات المهنية والتي وجدت لتكون منبراً يعبر أفرادها عن حقوقهم ومصالحهم بالإضافة لتبادل الخبرات وتنظيم قواعد مزاولة المهنة والحفاظ على سلوكياتها، ومواكبة الجمعيات المهنية وتفاعلها مع التطورات المحيطة بها وخروجها من قالبها المتعارف عليه والدور الاجتماعي الذي تقوم به مطلب مهم لتتبنى المشاكل التي تمس جزءاً من الحقوق التي تدافع عنها وأن كانت هذه الحقوق لبعض الأفراد أو قلة منها. وامتدادا لما لهذا الموضوع من علاقة وثيقة بالخريجين المهنيين يعاني طلاب قسم العمارة (بجامعة الملك فيصل بالدمام) من عزوف القطاع الخاص عن تأهيل الخبرات والتطبيق الميداني على الأكاديمي وبحكم ارتباطي في مجال العمارة أود أن أوضح بإيجاز ما يدرسه الطالب في هذا القسم عند التحاقه بالكلية حتى تتضح الصورة القائمة في أعين القطاع الخاص عن مفهوم الدراسة الأكاديمية للطلاب ودورهم الميداني بعد التخرج في النهوض بالقطاع الخاص على أسس علمية وطنية مؤهلة فيبلغ إجمالي ما يدرسه الطلاب في هذا القسم (العمارة) ، (165) وحدة دراسية موزعة على مدى خمس سنوات دراسية مقسمة إلى عشرة فصول، وبعد أن يكمل الطالب (90) وحدة دراسية يقضي الطالب فترة شهرين كتدريب صيفي في أحد القطاعات (الخاص ، الحكومي) كتخصص أكاديمي وهذه في حد ذاتها خبرة غير منظورة في عرف الخبرة الوظيفية ثم ان إلمامهم بجميع التفرعات التي تخص مجال العمارة وتتضح الصورة من خلال المواد التي يتناولها قسم العمارة خلال السنوات الأربع التي تلي السنة التحضيرية (أولى) على النحو التالي : تصميم معماري 55 وحدة دراسية تاريخ ونظريات العمارة 12 وحدة دراسية التشييد والمواد 9 وحدات دراسية الهياكل الإنشائية 9 وحدات دراسية مبادئ في طرق التصميم 6 وحدات دراسية مبادئ في التطور والتخطيط الحضري 6 وحدات دراسية برامج الإظهار والرسم المعماري 4 وحدات دراسية توجد (12) وحدة دراسية من المواد الاختيارية في أي من التخصصات الأخرى . ولعل هذا يوضح للقارئ والمطلع على فهم علاقة المقررات الدراسية بسوق العمل في الوقت الذي يطالب فيه البعض بتحديث وتطوير المقررات الدراسية لتتماشى مع احتياج الأسواق، ولو وجد برنامج لربط هذه المواد مع فترة التدريب الصيفي بسوق العمل ووضعت آلية يتم من خلالها تقييم مدى استفادة الطالب من هذه المقررات خلال فترة التدريب يتم بموجبة تحديد القصور أو التطور اللازم إحداثه في أي من المواد السابق ذكرها . إلا أنه وفي نفس الوقت لا نلقى المسؤولية على كاهل الجهات الأكاديمية فقط فالمسألة تمس مختلف شرائح قطاعات المجتمع، وعند النظر والتمعن في المقررات الدراسية التي يخضع لها الطالب في قسم العمارة نجد أن البعض مستعد للعمل في شتى المجالات المرتبطة في تخصصه ولا يلزمه إلا بعض الوقت والخبرة فالقصور لا يكمن في الفرد في كل الأحوال وإن للمشكلة جذورا أعمق يجب تحديدها لإيجاد الحل المناسب لها. وحتى يمكن أن يكون البحث العلمي ضمن أصوله ومساراته العلمية الصحيحة وقد قمت بإعداد إستبانة البحث المتبعة وتحديد الشرائح المستهدفة في الاستبانة وبعدد التحليل العلمي خرجت بحصيلة وافرة من التوصيات والمقترحات التي قد تغير الكثير من المفاهيم لصالح توطين الخبرات ومن أبرز هذه الآراء : 1 الإجماع على ضرورة توطين الخبرة وذلك كهدف استراتيجي من أهداف المحافظة على ثروة المجتمع ومقدراته ومكتسباته. 2 التأكيد على الجمعيات المهنية بضرورة أن تقوم بدورها الفاعل في وضع الآليات اللازمة والتنسيق بين مختلف القطاعات لحل هذه المشكلة الوطنية التي هي مسئولية الجميع. 3 إخضاع جميع برامح التدريب للتقييم من قبل الجهات والأكاديمية المتخصصة لتطوير المقررات الدراسية ومعرفة احتياج سوق العمل. . 4 ضرورة ربط القطاعات الحكومية والخاصة والأكاديمية عن طريق الجهات المهنية والتعريف بدور هذه الجمعيات من خلال الندوات والمحاضرات أو المنتديات السنوية . 5 تقتضي المصلحة الوطنية سعودة الخبرات للسيطرة على السوق المحلية في ظل المنافسة الأجنبية . 6 تحديد أطر توطين الخبرة له دور هام في الحفاظ على حقوق ومكتسبات حديثي التخرج من الطلاب وإعطائهم الحق بمزاولة المهنة . أرجو أن أكون قد وفقت في إيضاح موجز وقصير قياسا على البحث الذي قمت به لحل مشكلة رئيسة تؤرق مضاجع الطلاب الجامعيين بمختلف تخصصاتهم وميولهم العلمية والأكاديمية والتي تقف حجر عثرة في مستقبلهم المشرق في وطنهم إن شاء الله فإن أصبت فذلك بتوفيق من الله سبحانه وتعالى هذا والله الموفق . كلية العمارة والتخطيط جامعة الملك فيصل الدمام ارامكو السعودية نموذج لإعداد الخبرة الوطنية