بالنسبة لجونتر جراس، كألماني وككاتب، ليس هنالك من مفر من التاريخ، روايته الاولى الشهيرة (الطبل الصفيح) التي نشرت عام 1956م، دارت احداثها حول الحرب العالمية الثانية شأنها شأن رواية (سنوات الكلب) أحدى أفضل رواياته، روايته الأخيرة (مشية السرطان) نشرت مؤخرات بالانجليزية، تستدعي حدثا تراجيديا ارتبط بأحداث الحرب في بداية عام 1945. ومع ذلك فإن السيد جراس 75 عاما، والذي فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1999م، ليس منهمكا تماما في الماضي، إن التاريخ الذي يستحضره هو ظل التاريخ على الحاضر، لقد دفعت رواية (الطبل الصفيح) الألمان ليواجهوا أشباح النازية التي كانوا يعمدون إلى تجاهلها و (سنوات الكلب) ثمن المعجزة الاقتصادية الالمانية والأمر ليس مختلفا مع (مشية السرطان) التي يصل السيد جراس فيها الى القول بشكل ضمني ان الأوان قد حان للاعتراف بأن بعض الألمان قد كانوا ضحايا كذلك للحرب العالمية الثانية. ومثلما احدثت (الطبل الصفيح) صدمة لدى الالمان ابان نشرها، وحين تم نشر (مشية السرطان) باللغة الالمانية بداية العام الماضي، نظر الى السيد جراس كمخترق لاحدى التابوهات ومنذ ذلك الحين، تمت تغذية الجدل حول الالمان باعتبارهم ضحايا عبر نشر (النار) كتاب يروغن فردريك الاكثر مبيعا والذي يؤرخ فيه لقصف الحلفاء للمدن الالمانية. يقول غراس:(لقد فوجئت بردة الفعل تجاه كتابي لقد اعتقدت انه سيستهوي الجيل الأكبر سنا ربما. ولكن حين اقوم بانجاز قراءة علنية، فانك ترى الجيل القديم هناك، ولكنك أيضا سترى العديد من الشبان). لقد فوجيء جراس ايضا بالمعارضة القوية في صفوف الجيل الجديد من الألمان للحرب في العراق وقصف المدن العراقية قال جراس: في لقاء معه في مكتبه في مدينة لوبيك الشمالية وهي اولى المدن الألمانية التي تم قصفها في الحرب العالمية الثانية(انه ليس شيئا سلميا، إنه يذكرنا بالطلعات الجوية على المدن الألمانية، والإحساس بالعجز والرعب، إن ذكرى تلك الأحداث قد انتقلت بطريقة ما إلى الجيل الأصغر). في (مشية السرطان) يتناول السيد جراس اثنتين من ذكريات الحرب التي اغفلت لزمن طويل، الأولى ترتبط بالألمان الذين تم إقصاؤهم أو الذين فروا من مناطق كانت تحت الإحتلال النازي، والأخرى ترتبط بشكل أكثر دقة بإغراق سفينة ألمانية كانت تحمل على متنها آلاف اللاجئين من الألمان من قبل غواصة سوفيتية، وكعادته دائما، فإن جراس يهتم كثيرا بأثر إحدى الذكريات البعيده على مواقف الحاضر، كما أنه يحذر هنا من المخاطر التي تمثلها الذاكرة المقموعة. سفينة فيلهام غوستلوف المحولة إلى سفينة سياحية تم إغراقها بالطور بيدات في بحر البلطيق مساء الثلاثين من يناير عام 1945، وكان على متنها ما يقارب 10500 شخص، معظهم لاجئين هاربين من تقدم الجيش الأحمر نحو المقاطعة الألمانية حول دانزغ (حيث ولد جراس نفسه عام 1927) والتي أصبحت مدينة بولندية الآن باسم غادنسك، نجا من تلك الحادثة أقل من 1250 شخصا وقد كانت واحدة من أسوأ كوارث الحروب في التاريخ، وبالرغم من ذلك وفي ذلك الحين لم تقر موسكو أو برلين بوقوعها. يقول جراس:(بعد انتهاء الحرب، أصبح الأمر من التابوهات في المانياالشرقية لأنه كان كذلك في الإتحاد السوفتي، أما في المانيا الغربية فكان من المملكن الحديث عنها وقد تم إنجاز بعض العمل التوثيقي، ولكن ليس في اطار شكل أدبي، بشكل عام كانت مهمة الألمان الأولى هي الحديث عن الجرائم التي ارتكبها الألمان، أما مسألة المعاناة الألمانية فكانت ذات أهمية ثانوية. وفي حقيقة الأمر فإن أحد لم يرد أن يتحدث عنها). لا أحد سوى المجموعات اليمينية المتطرفة التي لم تكتف بإثارة موضوع ضحايا الغوستلوف، ولكنها سعت لإحياء قصة غوستلوف الحقيقي، وهو زعيم نازي في سويسرا تم اغتياله في 1936م على يد يهودي من أصول كرواتية يدعى ديفيد فرانكفورتر في نفس السنة اطلق على السفينة السم (الشهيد) النازي وأمر بإقامة نصب تذكاري لغوستلوف في مدينته شويرن. في كتابه يقوم السيد جراس (بالعدو إلى الوراء ليمضى قدما) مثل سرطان ليتتبع حياة من كل من غوستلوف وفرانكفورتر حتى لقاءهما المميت في دافوس في الرابع من فبراير عام 1936م، ويسجل كيف تمكن أليكسندر مارينسكو، قائد الغواصة السوفيتية من إغراق الغوستلوف، ولكنه أيضا يبدع شخصية متخيلة للاجئة تتمكن من النجاة تدعى تولا بوكريفيك ويقوم بتتبع أحداث حياتها حتى هذا اليوم. الراوي هو بول ابن تولا الذي ولد في قارب طربيد ألماني بعد ساعة واحدة من غرق سفينة اللاجئين، وفي حين بقيت تولا في المانياالشرقية، لجأ بول الى الغرب في الستينات وامتهن الصحافة، وبعد توحيد ألمانيا عام 1990م الذي شرع الكثير من أبواب الماضي أوكلت الى بول مهمة البحث في مأساة الغوستلوف من قبل رجل يدعوه بأسماء مختلفة مثل (الرئيس) و (الولد الكبير) و (المستخدم). الى جانب تتبع حادثة الغوستلوف نراقب عن كثب حياة بول ذاته فبعد انفاصاله عن زوجته اصبح قليل الاتصال مع ولده المراهق كوني. وخلال عقد التسعينات يصبح كوني أكثر قربا من جدته تولا التي تشتري له جهاز (كمبيوتر) وتشاطره هوسها بالغوستولف وبعد فترة وجيزة يتجاوز تعلق كوني بالأمر تعلق تولا به ليشتمل على إعجاب بغوستلوف وكره لغرانفكورتر. يكتشف بول ذلك وهو يبحث عما يرتبط بمشروعه على الإنترنت, ففي احدى غرف المحادثة اليمينية، يتتبع حوارا بين شخص يطلق على نفسه إسم فيلهام - وهو الإسم الأول الغوستلوف، وبين شخص آخر يعرف نفسه بكونه يهوديا ويطلق على نفسه اسم ديفيد - الاسم الاول لفرانكفورتر، فجأة يكتشف بول أن فيلهام هو كوني وهو يراقب الأمر متوجسا حين اتفق الاثنان على اللقاء. يقول جراس وهو يشعل غليونه الذي لا يفارقه:(أحد الأسباب التي دفعتني لكتابة هذا الكتاب بين أسباب كثيرة هو انتزاع الموضوع من بين أيدي اليمين المتطرق، إنهم يقولون إن مأساة الغوستلوف كانت جريمة حرب، أنها لم تكن كذلك، لقد كانت فظيعة، ولكنها كانت نتيجة للحرب، نتيجة فظيعة للحرب، لم تكن حدثا مرسوما). غير انه يعتقد ان قصف الحلفاء للمدن الالمانية كان فعلا اجراميا لأنه لاهدف عسكري له يقول:(لقد بدانا الفوج الاول من هذه الطلعات الجوية التي كان الهدف منها هو قتل مدينة ما، مع الغورنيكا في الحرب الاسبانية الأهلية، روتردام وكوفنتري وليفربول ولندن تبعتها بعد ذلك، ثم فعل بنا نحن ذلك، إن ما شعرنا به نحن انقلب علينا، ولكن كلتا الحالتين تمثلان جرائم حرب). بعد نشره لرواية (مشية السرطان) كرس جراس وقته للشعر والنحت والرسم حيث توجد أعماله الآن معروضة تحت مكتبه في متحف صغير أطلق عليه اسمه، بعض أعماله تصور حيوانات ظهرت في رواياته مثل السمك المفلطح والجرذ والحلزون، ومن وحي (مشية السرطان) قام بعمل عدة دزينات من المجسمات الصغيرة التي تمثل ضحايا كارثة الغوستلوف). ولكن السياسة والأدب لم يكونا بعيدين عن حياته قط، لقد رحب بكتاب السيد فريدريك عن قصف الحلفاء، ولكنه لم يتفق كثير مع و.ج. سيبالد في مقالته (الحرب الجوية والأدب) المنشورة في ألمانيا عام 1999م والمترجمة الى الانجليزية هذا العام في مجموعة أطلق عليها اسم (عن التاريخ الطبيعي للخراب) يدعي السيد سيبالد ان كتاب ألمانيا ما بعد الحرب قد تجاهلوا معاناة الألمان أثناء الحرب. يقول جراس:(إن روايات هاينرش بول وولغفانغ كويبن تناولت هذه الموضوعات) ويضيف قائلا:(لو أنني التقيت بسيبالد لسألته لماذا لاتكتب أنت كتابا عن الموضوع؟) وكان سيبالد قد توفى عام 2001م. إن ما يشكل قلقا كبيرا بالنسبة للسيد جراس منذ توحيد ألمانيا هو بروز ماض مختلف على السطح، (قلنا في ألمانيا، يا إلهي، لقد انتهت الحرب الباردة، لنوقف هذا النقاش حول الحرب، لقد كنا نقوم بذلك لسنوات وسنوات، ولكن هنالك أيضا تلك الهجمات الفظيعة التي يوقعها اليمين المتطرف على الأجانب، حتى هنا في لوبيك، حيث أشعلت النيران في أحد منازل اللاجئين قرب الميناء، إن التاريخ يعود مرة أخرى). ان ذلك بالطبع كان حاضرا في ذهن السيد جراس حين كتب (مشية السرطان) ولكن يبدو أن العديد من القراء الألمان كبار السن قد تجاوزوا واغفلوا رسالة الرواية الأشد سوادا يقول جراس:(تلقيت رسائل عديدة تشكرني، يقولون لي: لقد وجدت الكلمات، كنا نفكر بالأمر ولكننا كنا عاجزين عن التعبير عن انفسنا) ربما لم يبلغ بعض هؤلاء القراء الصفحات الأخيرة من (مشية السرطان) حيث يقول جراس كلمته الأخيرة حول التاريخ الألماني. يقول جراس:(إنه لا ينتهي، وسوف لن ينتهي). عن ملحق النيويورك تايمز الأبدي