كيف نكتب سيرتنا الذاتية ..وكيف نعري ذواتنا.. وهل نعريها بصدق بغية المكاشفة؟ أم أننا نعريها لنكسب المزيد من الأضواء ،لندعي أننا أكثر جرأة ،وأننا أكثر قرباً من الواقع ،وأننا لا نخشى ما يقوله عنا الآخرون ؟! ... في الغرب قد يشتهر كاتب بمجرد أن يكتب سيرته الذاتية المليئة بالمغامرات والإحباطات والقصص المثيرة .. عندنا قد يختلف الأمر ،وربما قد ينعكس على شخصية الكاتب إذا لم يحسن استخدام المعلومة ويوظفها بشكل دقيق ويتربص بالحرفية التي تحتاج إلى الكثير من الحساسية والشفافية التي إن لم يسيطر عليها بدورها ضاعت الهدفية من استخدام تلك المعلومة. كيف نكتب مدننا.. كيف ندخلها إلى عالم الرواية الساحر؟ كيف نجعل العالم يتثاءب عند سماعه الكلام المباح؟ كيف نجعله ينصدم عندما تستيقظ ديكة شهرزاد معلنة بدء الحقيقة؟ هل نكتبها من داخلنا أم نكتبها كما هي؟ هل نكتبها مجردة (أشجار وحجارة وشوارع؟) أم نكتبها برفقة أناسها الطيبين ..الفقراء .. الأشرار.. الانتهازيين .. مع المدرسة والجامعة والمسجد ..مع الأحزان والأفراح.. الهزائم والانتصارات ؟ كيف يكتب أحدنا عن مدينة غاب عنها 30 سنة ،لا يعرف عنها سوى تلك الشذرات التي تصله عنها محملة في رسائل قد ترسل إليه وهو في جنيف أو القاهرة أو بودابست ..وقد يستلمها وهو متدثر بصقيع أحزانه.. وقد يأتي البريد وهو يعالج سكرات هزائمه في قيظ الألم ؟! هل يكتبها معتمداً على مزق من بعض الصور التي حاربت السنوات لتظل متشبثة في ذاكرته متحدية عوامل التعرية التي قد تتعرض لها أي ذاكرة.. ربما هي الذاكرة الفلسطينية التي تمتلك هذه القدرة العجيبة ..؟ أو يكتبها بعد أن يقرأ الجرائد اليومية لمدة شهر معتمداً على الأحداث التي تقع فيها والتطورات التي قد تحدث على مختلف الصعد؟ أو يطلع على الدراسات التي أجريت خلال السنوات الأخيرة عن هذه المدينة ؟ ... والإجابة أصعب مما نتصور.. إننا بإزاء مدينة ليست كالمدن.. ليست مجرد مدينة نغيب عنها ونرجع لنجدها كما هي ..أو قد تتغير بعض الشوارع وترصف بعض الطرقات وتنهض بعض الأبنية ؟ لا ليست كذلك.. صصالصباح الأول في رام الله . أستيقظ وأسارع بفتح النافذة. * شو هالبيوت الأنيقة يا أبو حازم؟ * مستوطنة . ثم أضاف : * شاي ؟ قهوة؟ الإفطار جاهز . يالها من بداية لاستئناف العلاقة بالوطن هكذا يبدأ الإنسان أو يستأنف علاقته بوطنه.. بمدينته التي ولد فيها ..وتربى فيها .. ودرس فيها ..وأثخن بحبها وأولجها صباه.. وأودع ابتسامات الطفولة وشقاوتها.. وبراءة العلاقات الحميمة مع الفتيات الصغيرات .. يبدأها منكسراً أو لعله يبدأها مصدوماً.. ها هي حركة الاحتلال قد أخذت في التوطد ..يسمونها تخفيفاً مستوطنات (مبان فخمة ..فلل.. شوارع جديدة حدائق ..أسواق راقية.. ) وفي المقابل في الجانب الفلسطيني (مدارس مغلقة ..جامعات معطلة ..شوارع مخددة ..أوساخ ملقاة بكرم.. بيوت مهدمة أو في طريقها إلى ذلك. وإن كانت العزائم أقوى من ذلك . فالمواطن الفلسطيني راجع لا محالة إلى وطنه مهما كانت الخسائر، فمن سيعمرها غيره)؟ تبدأ الأمكنة منذ البداية - منذ وصوله إلى رام الله - في الانبثاق والنهوض أمام الراوي .. وتبرز له قوية متماسكة . قد من الله عليها بالصمود أو الانهيار على مر الثلاثين عاماً ..أشكالها بدت متغيرة ..أحجامها طرأ عليها بعض التغير.. روائحها لاشك أنها مارست بعض السطوة ولاشك أن الزمن أيضاً تواطأ معها ،وجعلها روائح مختلفة تطرق سنوات الذاكرة بشيء من العنف وتهزه هزاً ،لكن السارد يأبى ويعنف تلك الذاكرة التي لا تطاوعه ولا تسير حسب هواه .. ها هو يسير عكس الزمن يأبى أن يصدق تلك التغيرات التي سرقها منه ..إنه في شوق دائم لاسترداد ذلك العبق ..ذلك الألق الذي يختزنه الماضي. ذلك الماضي الذي يملك حنواً غريباً لديه ،فيمضي في رسم شخصياته وسروده نحو تلك الأمكنة القديمة، نحو تلك الشخصيات التي كان يستمتع بها ويعتبرها حاضرة مهما كان غيابها طاغياً . الموت هو الآخر لم يؤثر على خط السرد لديه . ليس من باب الاسترجاع أو التذكر .لا.. إنها الرغبة الماحقة في تجهيز واسترداد ذلك الزمن وجعله هو البطل .. الشخصيات بدورها لم تتمكن منه ..كان يرى الأشخاص أمامه ولكنه نصب ستاراً واقياً بينه وبينها ..كان كل شخص بالنسبة إليه شخصاً آخر مساندا له أو ظلا أو لنقل ماضيا يمثل إما جداً أو أباً أو رئيس قبيلة أو حتى تاريخاً معيناً أو حادثة ما، حدثت لتلك العائلة أو لذلك الشخص. لماذا لجأ الكاتب إلى الرواية ليسجل هذه الأحداث؟ لماذا لم يسجلها شعراً وهو صاحب أحد عشر عملاً شعرياً منذ عام 1972م ؟ هل هو الإغراء الذي تميزت به الرواية خلال السنوات الأخيرة؟ أم هو الاضطرار الذي يلجأ إليه المبدع في بعض الحالات الاستثنائية.. فثمة ما لا ينكتب بغير الشعر، وكذلك هناك بعض الموضوعات التي لا يمكن إلا أن تسرد . إلا أننا - وعلى الرغم من ذلك - نقف أمام حالة شعرية داخل الرواية، فإثم الشعر يظل يتلبسه طوال رحلة العمل السردي. وثمة وقفات تنغرس داخل ألقه الشعري لتنهض قصيدة صلبة، ربما كتبها في الغالب بشكل مسبق، ولكن الضرورة المكانية ألزمته استحضارها من ذلك الديوان أو تلك الأمسية، لتبقى نابضة ..حية ..ماثلة أمامه وكأنها كتبت لتوها على هامش الرواية. حقل اللوز الذي تملكه أم نظمي التي كانت لا تطيق أن ترى طفلا منا يفوز بحبة لوز واحدة من أشجاره الضخمة، أصبح مقبرة. كان لابد أن أطلب لها الرحمة اعتذاراً عن صورتها التي تسللت إلى ذلك المقطع في قصيدة الشهوات : شهوة للصوصية الطفل فينا، نغافل بخل العجوز التي وجهها مثل كعك تبلل بالماء، كي نسرق اللوز من حقلها. متعة العمر ألا ترانا. وأمتع منها ،إذا ما رأتنا، مراجلنا للهرب وأمتع من كل هذا ، إذا استلمت خيزرانتها واحداً، وانضرب ! هل تسلل الشعر عنوة أم أتى طائعاً، هل هي أرجوزة العمل المختلط أو اختلاط الأجناس كما يحلو للكثير أن يغنيها دائماً. العمل الإبداعي ليس بحاجة إلى تصنيف، لاسيما إذا جاء العمل انسيابياً لا يفتعل إدخال مادة وقسرها على التوافق ،كما يفعل بعض الذين يكولوجون أعمالهم ،لكننا لسنا بإزاء أي نوع من أنواع الكولاج ولا تداخل أجناس ..إننا بإزاء حالة شعرية خالصة يمتزج فيها الشعري بالسردي في تواشج حميمي . هل يتحمل الواحد منا أن يعيش بعيداً عن ابنه ..سنة ربما سنتين.. الطفل يكبر بعيداً عن أبيه.. ينطق الكلمات بعيداً عنه..يتشاقى بعيداً عن تعنيف أبيه ..وعن حنوه وحتى عن ضربه .. هكذا الراوي ظل يتحايل على الفرص لكي يرى ابنه ..ربما في كل سنة مرة واحدة ..صار عمر ابنه 17 عاماً وهو لا يستطيع المبيت معه في سكن واحد.. هل تتحمل أنت ذلك ؟ كيف سيكون شعورك لو لم يتعرف عليك ابنك وهو صغير، هل جربت ذلك؟ ستذرف دموعك.. ستبكي ،وماذا لو قال لك عمو بدلا من بابا ؟! وعندما أحضرته رضوى معها للقاء بي في شقة مفروشة في بودابست كان عمره ثلاثة عشر شهراً، وصار يناديني : * عمو أضحك وأحاول أن أصحح الأمر : * أنا مش عمو يا تميم. أنا بابا فيناديني : * عمو بابا ! ... وبعد سبعة عشر عاماً من التشتت بعيداً عن زوجته وأولاده وثلاثين عاماً من الغربة هل يلتقون في رام الله.. الجواب ليس متوافراً في الرواية. إنه الأمل الذي ربما يتحقق ..ولعل الإجابة موجودة عند مريد البرغوثي الكاتب وليس السارد، لأنه ربما يكون موجوداً الآن في رام الله . غلاف رأيت رام الله