بعيدا عن لغط الجوائز، وإحصائيات دور النشر، وخبراء المبيعات. تصدر روايات عتيدة، لا يمكن أن تخطئها عين حصيفة، التي لا يمكن أن تبلبلها أضواء الإعلام. قد نصادف هذه الكتب منزوية في ركن من رفوف المكتبات ناضجة بخبرة كتابها ومهارتهم السردية المكتسبة منذ سنين. هذا هو حال رواية الفرنسي باتريك موديانو الصادرة عن دار غاليمار 2013، والتي اختار لها الكاتب عنوانا شاعريا: «عشب الليالي» بلا شك، فباتريك موديانو غني عن التعريف، فهذه روايته السابعة والعشرون، كما أنه حسب الدوائر الثقافية الفرنسية كان مرشحا بقوة لجائزة نوبل خلال هذه السنة، وبالتأكيد في السنوات القادمة. يحتفي موديانو بذكريات مركبة ومتعاركة يسرقها كغنائم حرب. هل تشتعل الذاكرة كلما تقدم الأدباء في العمر؟ حاول موديانو أن يكون وفيا لحيل الذاكرة الماكرة بأسلوبها المضيء حد الحسم والمعتم حد الصمت المطلق. الإضاءة والظل هي تقنية روائية رضخ لها الروائي مرغما ما دام يبحث في موضوع شائك مرتبط بالذاكرة. ذاكرة المكان المتحول والإنسان المختفي. تعود بنا الرواية إلى فترة الستينيات من القرن الماضي عندما كانت المخابرات الأجنبية تصفي معارضيها، في وضح النهار بشارع سان جيرمان. السارد في الرواية يدعى جان، يقدم نفسه على أنه كاتب يحاول لملمة شتات ذاكرة عزيزة المنال: نسمعه منذ بداية الصفحة الأولى يصرح: «ومع ذلك لم يكن حلما. أفاجئ نفسي في بعض الأحيان، أقول هذه الجملة كما لو أنني أسمعها من شخص آخر». الشخص الآخر هو ما يبحث عنه جان على امتداد 192 صفحة. والمعني بالبحث هي امرأة تدعى داني، تقطن في الحي الجامعي وبالضبط بالجناح المغربي. لها علاقات مريبة باستخبارات مغاربية، ثم تختفي فجأة في ظروف غامضة. جان من عادته أن يحمل في جيب معطفه مذكرة صغيرة سوداء يدون فيها بعض المعلومات الخاصة: أسماء وعناوين وأرقام هواتف. منذ البداية يثير السارد مسألة الذاكرة التي تتمنع وتتدهور وربما تنمحي نهائيا: «أسماء تعود إلى ذهني، بعض الوجوه، بعض التفاصيل، لا يوجد أحد لأسأله، لا بد أن أجد شخصين أو ثلاثة على قيد الحياة. ربما قد نسوا كل شيء. ومن ثم ينتهي بك الأمر لتتساءل عما إذا كان هناك حقا شهود عن الواقعة». ينطلق جان للبحث عن جان نفسه الذي عاش بين هذه الأمكنة قبل خمسين سنة. خلال الفترة المضطربة من حياته إبان الستينيات، فترة غنية بالأحداث الحلوة والمرة لا نعرف ما إذا كانت حلما حقيقيا أم مجرد ملاحظات في دفتر أسود صغير يعكس حياة صعبة تبدو متناثرة كأحجار صغيرة في مسار الحياة. داخل أجواء مبهمة وغامضة إلى حد ما، وبين مقاهٍ وحانات، وفنادق، وشوارع الليل، يطارد جان الذاكرة الهاربة وظلالها التي لا تبدو لنا الآن حقيقية بحكم اختفاء أغلب هذه الأمكنة عن أرض الواقع، فلا يبدو الواقع حقيقيا إلا داخل المفكرة الصغيرة السوداء، وهي يا للغرابة! الشاهد الوحيد على تواجدها. نتابع جان في بحثه الشبه بوليسي في الدائرة الثالثة عشرة، حيث يحوم الخطر. يتذكر جان مدفوعا برغبة جامحة. بالنسبة لنا، كل شيء يبدأ مرة أخرى. كما هو الحال في كل روايات موديانو، نستسلم بتلقائية وحب لسويداء السارد. الحزن «المودياني» يسيطر على شخصيته الرئيسية، وهي تبحث عن امرأة مفقودة هذا البحث قد يستغرق عدة سنوات، أو حتى عقودا، ليفهم في النهاية أن الفقد هو رديف الحب، لكن بعد فوت الأوان. يلتقي جان بالفتاة داني في مقصف الحي الجامعي، ثم يصحبها إلى الفندق الوحيد القريب من شارع مونغ. هناك سيلتقي ببيير ديويلز وجيرار ماركيانو وبول شاستانيي وجورج روشارد، وهي الشخصيات الرئيسية في الرواية، سنتابعهم في الحاضر، كما في الماضي بين أحياء باريس. باريس موديانو بالتأكيد مستعينا دائما بمفكرته السوداء التي يستعملها كدليل وبوصلة ليستعيد الزمن الهارب. يلاحظ جان خلال لقاءاته بداني أن لها علاقة بجماعة غامضة، ومن بينهم المدعو أغموري الذي تربطه علاقة غامضة بداني الطالبة الجامعية، بحيث أنه منحها بطاقة الطالب مزورة تحمل اسم زوجته. هذا الأخير حذر السارد من مغبة التمادي في علاقته بالطالبة. تسارع الطالبة للهرب بعد إتمام العملية، فرارا من التورط في قضية قذرة. لا يمكن أن نلوم أحدا نحبه، يقول جان وهو يتسكع بين شوارع باريس. يرغب جان أن يعثر على داني لكنه لا يعرف اسمها الحقيقي، بالنسبة له، فاسمها هو داني لكنه يعلم في قرارة نفسه أن لها أسماء مزيفة عديدة. سيلتقي جان بالشخص الإنجليزي الذي يتفق معه على تسليمه ملف داني أو ما تبقى منه. هل كان جان يريد معرفة الحقيقة؟ وهل هي الحقيقة عينها؟ لكن جان يوجد بين الحقيقة والزيف، فالهامش الذي يتموقع داخله ككاتب لا يسمح له باكتشاف كواليس الاستخبارات البوليسية وألاعيبها الماكرة لتصفية معارضيها. لا يمكنه بتاتا التحول من عالم المثل إلى عالم القذارة. هل يكتب موديانو نفس الكتاب؟ لا يعيد موديانو تيماته ويكرر إيقاعاته السردية، ولكن الإحساس بالتكرار مرده إلى أن كتابته مفعمة بقوة أدبية موحية شديدة الإيمان بعقل الإنسان وكرامته وإرادته. تدين القوى المعادية له والأنظمة الفاشية والاستبدادية التي تهين كرامة الإنسان. لهذا يلح في رواياته جميعها على استعادة الماضي كمحاولة لإصلاح أخطائه.