كانت الساعة الثالثة ظهرا والطرق تكاد تخلو من المارة بسبب الحر ، وفي طريقي وأنا انزل من جسر صغير يقع على مقربة من ساحة النسور ببغداد وعند جدار أحد قصور صدام التي نهبت ، كان ذلك الشاب الذي يبدو انه لا يتجاوز الأربعين من عمره يرتدي قميصا بنيا وسروالا اسود ممدداً على رصيف الشارع العام وقد لفظ أنفاسه الأخيرة . كانت السيارات تمر عبر الشارع بسرعة ويلتفت سائقوها الى تلك الجثة ولكن لا أحد يجرؤ على التوقف ولكن الجميع ومنهم أنا كنا نعتقد بالضرورة ان سراق السيارات قتلوه ورموا به في ناصية الطريق بعد ان سرقوا سيارته كما يجري عادة في كل يوم وفي كل شارع في بغداد . سألني ابني الصغير ذو السنوات الست والذي كان يستقل السيارة معي وهو يرى جثة ميت لأول مرة في حياته ، (لماذا ينام هذا الرجل هنا في الظهر) ؟ ، أجبته وقد ادلهمت السماء بعيني.. انه ميت يا بني ، وكان إرتعاب الطفل اكبر من حجم المأساة التي نعيشها يوميا. بغداد ليست بغداد التي نعرف فكل شيء هنا قابل للموت في أية لحظة ولأي سبب كان حتى من اجل سيجارة . ومازال الوضع في العاصمة العراقيةبغداد محفوفا بالمخاطر ومازالت قضية السرقات وعمليات السلب والسطو المسلح وخاصة سرقة السيارات وقتل سائقيها تمثل مشكلة كبيرة رغم مرور ما يقرب من الشهرين على انتهاء الحرب . وعلى الرغم من عدم ظهور بوادر لتحسن الوضع الأمني إلا ان القوات الأمريكية تؤكد انها تعمل بجد على معالجة تلك المشاكل وتزعم انها تحرز نجاحا كبيرا في هذا المجال عبر إلقاء القبض على عدد من المجرمين واحالتهم الى المحاكم المختصة وسجن عدد كبير منهم . ولكن شعورا يسود سكان العاصمة يزيدهم إحباطا إزاء الأمريكيين الذين لم يتمكنوا حتى الآن من تعزيز التواجد الأمني ، حتى ان بغداد بعد الساعة العاشرة مساء تتحول الى مدينة أشباح يخاف المرء فيها من همهمات صدره وحفيف نعليه . والحل في نظر الكثيرين ان لا حل قريب فالخوف اصبح اكبر من الأسئلة والموت المجاني في كل مكان حتى أمام أنظار الأمريكان الذين يسمون اللصوص في العراق ( علي بابا) ولكن من يأتي بكهرمانة لتصب الزيت الحار على اللصوص بعد ان اختفوا في أربعين جرة ، كما تروي ذلك الف ليلة وليلة في قصة علي بابا والأربعين حرامي . ويبدو ان الجميع من عراقيين وأمريكيان وبريطانيين محتلين وخاضعين للاحتلال أدرك الخطر ويعترف الجنرال البريطاني توم كروس المسؤول الثاني في الإدارة الانكلو -أمريكية للعراق بان القوات الموجودة في العراق لا تكفي لاعادة الأمن والنظام مشيرا الى ان ثمة مشاكل في بغداد ولكن يجري معالجتها والتعامل معها حاليا . وعلى الرغم من وجود مفارز من القوات الأمريكية منتشرة في مناطق حيوية في بغداد وهي تضبط السيارات الحكومية المسروقة وتلقي القبض على سراقها وسط تذمر الناس بسبب الاختناقات المرورية وتعطيل حركة السير التي حدثت جراء عمليات التفتيش الصعبة التي يرى بعض الناس انها تستهدف التفتيش عن السلاح وليس عن السيارات المسروقة ،إلا ان الناس رأت في بعض هذه الجهود محاولات لتأمين الأمن ولكنها لم تثمر عن وضع اكثر استقرارا للحد من حالة الانفلات والفوضى داخل بغداد. ومع ان أعمال السلب والنهب أدت الى تدمير البنية الأساسية وهددت حياة آلاف الناس ودمرت إمدادات المياه والكهرباء قبل ان يعاد تأهيلها مؤخرا . الا ان السرقة على ما يبدو أصبحت مهنة ، ويتناقل العراقيون كما تناقلت بعض الصحف المحلية قبل أيام خبرا يقول ( ان أحد أئمة المساجد استحلف المصلين في صلاة الجمعة الماضية في جامع بمنطقة الجادرية في بغداد ان لا يصلي خلفه من سرق من الأموال العامة شيئا بعد سقوط بغداد ، فلم يصل خلفه سوى سبعة أشخاص بعد ان كان الجامع يغص بمئات المصلين). وغير حديث القتل بسبب السرقة فان بغداد وغيرها من مدن العراق تشهد المزيد من الفوضى الأمنية واعمال القتل وحرق البيوت ، خاصة بيوت المسؤولين السابقين من أعوان النظام السابق ، وإذا كانت مدينة البصرة جنوبالعراق قد شهدت أعلى الارقام في حرق البيوت .فثمة جرائم قتل وانتقام حدثت وما زالت تحدث ، حيث الكثير يحاول اخذ ثأره ممن ارتكبوا الجرائم بحقهم او كانوا سببا في إعدام او سجن أبنائهم في سجون صدام وهي القضية التي بدأت تثيرها بشكل كبير الملفات الأمنية التي عثر عليها العراقيون في دوائر الأمن والمخابرات العراقية بعد ان تم تدميرها وسلب محتوياتها من قبل اللصوص ، فالذين عانوا من النظام دخلوا الى تلك المباني بعد سقوط النظام للبحث عن ملفات الأمن والمخابرات وكيف كانت تتم عمليات التصفية او الاعتقال واكتشف الكثيرون أسرارا عن المخبرين وما زالت عمليات قتلهم مستمرة على الرغم من صدور فتاوى للعلماء في العراق تدعو الى عدم الانتقام وترك ذلك للقانون. القتل والسرقة والموت في مفترقات الطرق اهم ما يميز العراق الذي قال عنه الرئيس الأمريكي بوش انه سيكون مثلا ونموذجا يحتذى بعد سقوط صدام ، وها هي نموذج فمن يريد احتذاءه ؟