فاجعة الوقت لا تكمن فقط في أن العراق جرى احتلاله، ولكن أيضاً في أن أصواتاً عدة ارتفعت داعية إلى إشهار إفلاس الأمة العربية كلها واستسلامها. إزاء ذلك، فلعلي لا أبالغ اذا قلت بأنه اذا كان ما جرى للعراق كارثة من العيار الثقيل، انضافت إلى سجل كوارثنا الذي يمثل احتلال فلسطين عنواناً كبيراً له، فان دعوة الأمة إلى الانبطاح تغدو "أم الكوارث بامتياز". (1) للمشهد الكارثي وجه اخر لا نستطيع أن نتجاهله، يتمثل في كم الفضائح التي استصحبته، وهي بدورها من العيار الثقيل. ولأنها كثيرة فإنني سوف أؤجل التفصيل فيها إلى فرصة أخرى، لكني سأتوقف لحظة امام واحدة من تلك الفضائح، تنتمي إلى جنس "الكبائر" الفكرية والسياسية التي لا تغتفر. ذلك أن ثمة جدلاً مدهشاً في بعض الصحف العربية حول تكييف ما جرى في العراق، وهل هو احتلال أم تحرير. وهو السؤال الذي لم يكن متصوراً أن يطرح من أساسه، على الأقل في عالمنا العربي. ولكن لأننا في زمن "اللامعقول السياسي"، فقد طفا السؤال على السطح، وتعددت في شأنه الاجتهادات. فمن قائل أن الغزو هو تحرير للعراق وشعبه، وبداية لربيع الديمقراطية في البلد الذي خضع للاستبداد طيلة اكثر من ثلاثة عقود. وهناك من اصطنع الحكمة والرصانة ودعا الناس إلى عدم التعجل في إصدار الأحكام، والانتظار لبعض الوقت مع متابعة السلوك الأمريكي في حكم العراق، للتحقق مما اذا كانوا غزاة طامعين، أم مصلحين ومحررين. وقرأنا لمن قاله انه احتلال حقاً، ولكنه "من نوع خاص"، أرقى وارفع، بمعنى انه لا يخلو من إيجابيات (أهمها إسقاط النظام الاستبدادي). أما اغرب ما قرأت في هذا الصدد فعنوان لمقالة نشرتها أحدى الصحف العربية اللندنية، يقول: يجب أن نتعلم أخلاق الأحرار ولو على حساب الاستقلال. ووجدت للعنوان أصلا في المقالة هذا نصه: حق لنا أن نتعلم أخلاق الأحرار، حتى لو كان ذلك على حساب استقلال وكرامة وشرف، تبين في النهاية أنها وهم من أوهام كهوفنا الجميلة، منذ أن مرغها أبناء جلدتنا في الوحل والطين، قبل أن يفعلها الآخرون (!). هذه ليست "اجتهادات" تشين أصحابها فحسب، وإنما هي في الوقت ذاته شهادات فضائحية تكتب تاريخ المرحلة التي نعيشها، والتي اهتز فيها كل شيء والتبس، بما في ذلك القيم التي تمثل ركائز المجتمع وثوابته، حتى تداخلت الحدود بين الخطأ والصواب، والفضيلة والرذيلة، والعقل والجنون. المذهل في الأمر أن هذه النقاشات تدور على صفحات صحفنا، بينما تتصرف الولاياتالمتحدة في العراق كدولة محتلة، فقررت أن تقيم في أرجاء البلاد أربع قواعد عسكرية باعتبارها من مستلزمات الإقامة الطويلة، ناهيك عن أنها مضت تمارس احتلالها بطريقة مباشرة وفظة. فالرئيس بوش قرر تعيين "حاكم مدني" لذلك البلد الكبير، هو بمثابة "وال" يمثل "سلطان" البيت الأبيض (وهو ما لم تفعله الولاياتالمتحدة في أفغانستان، التي جاءت بأفغاني من رجالها ونصبته على رأس الدولة) - في حين أن السيد رامسفيلد وزير الدفاع أعلن أن واشنطون وهي تعيد تشكيل العراق (الديمقراطي والحر) فأنها لن تسمح بأن يقوم فيه نظام إسلامي، أي أن الديمقراطية الأمريكية المفترضة لها خطوطها الحمراء، التي لن تسمح للشعب العراقي بتجاوزها حتى اذا قررت الأغلبية ذلك. في ذات الوقت فان أصواتاً أمريكية بدأت تعلو هنا محذرة من إطالة أمد الاحتلال، وفي عدد مجلة نيوزويك الأخير (4/5) مقالة نقلت ذلك التحذير بوضوح. (2) ذلك كله يهون إلى جانب سيل الكتابات التفكيكية والانبطاحية التي ظهرت في مختلف العواصم العربية بعد سقوط بغداد في 9 أبريل الماضي. وقد جمعت عدداً غير قليل منها، ووجدتها تصب في ثلاثة أوعية رئيسية. فهي من ناحية تحاول هدم فكرة الانتماء العربي. ومن ناحية ثانية فأنها لا ترى أملاً ولا حلاً إلا في الالتحاق بالمركبة الأمريكية. وهي في الوقت ذاته تدعو إلى التعامل مع اسرائيل والقبول بها على علاتها، وإدخالها ضمن ما سمي بالنظام الإقليمي. اذا أخذنا الكتابات التي حاولت نسف الانتماء العربي من أساسه سنجد أنها ارتكزت على النقاط التالية: @ انه لا يوجد شيء اسمه الأمة العربية، التي هي مجرد عنوان "رومانسي"، يدغدغ المشاعر ويخدر عقول الناس، في حين أن الموجود على الأرض والملموس حقاً، هو دول عربية تختف وتتفق، تبعاً لاختلاف مصالحها ومشاربها. @ إن فكرة القومية العربية كانت وبالاً على العرب جميعاً، فقد كانت سبيلاً إلى مصادرة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمر الذي اثبت أن العنوان خال من أي قيمة عملية وسياسية إيجابية. @ إن العمل العربي المشترك أكذوبة صدقها الجميع ووهم عاشوا في ظله طويلاً، والدليل على ذلك أن ذلك العمل العربي المشترك لم يصمد امام أي تحد واجهته الأمة، كما انه لم يحقق شيئاً ذا بال منذ اكثر من نصف قرن، وان الجامعة العربية كانت وما زالت عنواناً للخيبة العربية، ولذلك طالب البعض بإلغائها. الكتابات الأخرى التي رفعت شعار "أمريكا هي الحل"، تبنت أفكارا متعددة، أحدها أن المرجعية الدولية الآن هي أمريكية بالدرجة الأولى (هل تذكر مقولة أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا؟)، ولا مفر من التعامل مع تلك المرجعية عراقياً وفلسطينياً أيضاً. ومن ثم فان المطالبة بإخراج أمريكا من العراق مثلاً، تعد عملاً طائشاً يتجاهل الواقع ويسبح ضد التيار. البعض الآخر قال أن أمريكا هي الوحيدة القادرة على إحداث أي تغيير في المنطقة، وما كان ممكناً للشعب العراقي أن يخرج من الظلمات إلى النور إلا لان أمريكا هي التي عملت على ذلك. من ثم فأية مراهنة من جانب العرب على غير واشنطون تصبح مغامرة غير مأمونة العاقبة، بل سيراً في الاتجاه الغلط. أصوات الفريق الثالث اتجهت صوب اسرائيل، قائلة: ان غزو العراق ينبغي أن يكون نقطة تحول في النظر إلى "النظام الإقليمي"، والافاقة من أوهام الماضي ومن ثم التعامل مع أصول اللعبة في المنطقة بأسلوب أكثر "واقعية". وهذه الواقعية ينبغي أن يحتكم فيها إلى المصلحة الوطنية وليس إلى القيم الأخلاقية (!). فإسرائيل عنصر شرير حقاً، لكنها قوة إقليمية مؤثرة، ليس فقط في رسم خرائط المنطقة كما أثبتت عملية الغزو، ولكنها قوة مؤثرة أيضاً في القرار السياسي الأمريكي ذاته. بل أنها أصبحت باباً يتعين العبور منه للوصول إلى الإدارة الأمريكية. في الوقت ذاته فان النظام العربي صار حالة ميئوساً منها. لذلك فالحل المقترح هو ضرورة إدماج اسرائيل في النظام الإقليمي، والكف عن تجاهلها الذي استمر طيلة نصف القرن المنصرم. وعن طريق ذلك الإدماج المقترح يمكن حل الكثير من مشكلات المنطقة، وفي المقدمة منها قضايا السلام والاستقرار والتنمية. (3) هذا الخطاب يثير ملاحظات عدة، في مقدمتها ما يلي: @ انه يعبر عن استعداد مذهل للاستقالة من العروبة، مرة بزعم أن الأمة العربية لم توجد، ومرة ثانية بسبب اليأس من جدواها والفشل الذي منيت به دعوة القومية العربية. والأولون يجهلون او يتجاهلون الفرق بين الدولة والأمة. والدولة مؤسسة سياسية والأمة حالة اجتماعية. وقد تكون هناك أمة بلا دولة او أمة تتوزع على عدة دول. والمهم في الحالتين أن تتوفر الوشائج التي تربط بين مكونات الأمة. وهذه الوشائج متعددة، وتتراوح بين العيش في بقعة جغرافية واحدة، او في إطار انتماء عرقي او ديني. او في وجود أشواق وأحلام مشتركة. فضلاً عن ذلك فان الأمة تمثل عمقاً حضارياً من ناحية، واستراتيجياً من ناحية ثانية، يحتمي به ويتشبث أصحاب العقول الرشيدة، في مواجهة تحديات الاجتياح والإلحاق الحضاري والسياسي بقوى الهيمنة الأجنبية. أن آلاف الشباب العربي الذين تقاطروا من كل صوب في العالم على العراق بعد بدء العدوان لم يذهبوا دفاعاً عن نظامه او رئيسه كما ادعى البعض، ولكنهم ذهبوا دفاعاً عن جزء من الأمة العربية والإسلامية تعرض للغزو والاغتصاب. وابدوا استعداداً للموت والاستشهاد دفاعاً عن شرف وكرامة تلك الأمة. وإخوانهم الذين خاضوا التجربة ذاتها في أفغانستان والشيشان والبوسنة، والذين سبقوهم إلى الجهاد في فلسطين من ثلاثينيات القرن الماضي انطلقوا من نفس الموقف. وللعلم فان شيخ المجاهدين عز الدين القسام - الذي يحمل اسمه الجناح المسلح في حركة حماس الآن - كان سورياً ولم يكن فلسطينياً. ولا اعرف بعد ذلك كيف يمكن أن يقول قائل: ان الأمة لم توجد في الماضي ولا في الحاضر. كما أنني أتشكك كثيراً في براءة تلك المقولات التي تستهدف تجريد الأمة من هويتها، ومن ثم من وجودها وشرعيتها. أما النقد الذي وجه إلى القومية العربية ففيه خلط معيب بين الفكرة وتطبيقاتها، ناهيك عن انه يتجاهل حقيقة أن زوال الاحتلال عن العالم العربي، واسترداده لاستقلاله لم يتما إلا في أجواء المد القومي. ولا ينكر أحد أن الأنظمة القومية فشلت في إرساء قيم الحرية والديمقراطية، ويؤخذ عليها أنها همَّشت الانتماء الإسلامي، لكن ذلك لم يحدث لأنها قومية (بدليل أن أنظمة أخرى "غير قومية" وقعت في ذات المحظور)، ولكن لأنها لم توظف الانتماء القومي او تستثمره في الاتجاه الصحيح الذي يعزز قيمة الإنسان العربي ويدافع عن حقوقه وكرامته، وهو ما سعى إلى تداركه نفر من عقلاء القوميين في طور لاحق. @ بعد هجاء الانتماء العربي على ذلك النحو، فان القطرية ستكون الصيغة الوحيدة المتاحة، والمفضلة، الأمر الذي يحول الأمة في نهاية المطاف إلى بنيان هش بغير قواعد، والى شراذم موزعة على الشعوب والقبائل والأقطار المتناثرة. وهو ما يرتب نتيجتين حتميتين. الأولى أن الشرذمة توفر فرصة العمر للمتربصين والطامعين، باعتبار أن الذئب يأكل من الغنم القاصية او الشاردة. والثانية أن الاستقواء بالولاياتالمتحدة يصبح الحل الوحيد لتبديد المخاوف وإشاعة الشعور بالأمن لدى تلك الشراذم المستضعفة. @ الكلام عن إدماج اسرائيل في منظومة النظام الإقليمي يصبح أمراً مفهوماً بل سياق طبيعياً بعد هجاء العروبة والارتماء على أمريكا. ولعلي لا أبالغ اذا قلت أن حكاية إدماج اسرائيل هذه - حتى وان صدرت بحسن نية - تعد شكلاً من أشكال الارتماء على الولاياتالمتحدة، خصوصاً في ظل تداخل وظائف الأصيل والوكيل في علاقات الطرفين. ولعلك لاحظت أن من دعا إلى فكرة الإدماج تحدث عن "النظام الإقليمي"، تجاهل فكرة النظام العربي والعمق الحضاري الإسلامي. كما انه تحدث عن اسرائيل المؤثرة والفاعلة التي ارتأى ضرورة الإفادة من تأثيرها وفاعليتها. وبعد الدعوة إلى فصل المصالح عن الأخلاق، فانه غض الطرف عملياً عن اسرائيل المحتلة والغاصبة التي يتعين مطالبتها بإنهاء الاحتلال قبل أي كلام عن "التفاعل" المزعوم. لكن ذلك المطلب الجوهري جرى إسقاطه، وتلك نتيجة طبيعية في ظل سيادة منطق الانبطاح والاستسلام. (4) في مقالة سابقة نشرة في 1/4 تحت عنوان "اسرائيل في قلب الحرب" قلت أن أركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية يرون أن أهم آثار الانتصار الأمريكي في العراق تتلخص في أمرين، الأول عبر عنه موشيه يعلون رئيس أركان الجيش ويتلخص في أن ذلك الانتصار سوف يسرب الشعور بالعجز والهزيمة لدى العرب عامة والفلسطينيين خاصة.. والثاني أورده شفتاي شغيط الرئيس الأسبق للموساد، الذي توقع أن يسود العالم العربي مناخ ثقافي مغاير، يعطي للجناح الداعي إلى التطبيع مع اسرائيل قوة دفع جديدة، تمكنهم من الدعوة إلى مراعاة متغيرات الموقف، و "الواقعية" في التعامل مع الأوضاع المستجدة. من أسف أن تلك النبوءات صدقت، وأثبتت الأيام أن قراءة الخبيرين الإسرائيليين كانت صحيحة. وما الأفكار التي عرضنا لها إلا دليل تلك الصحة. وهي الأفكار التي لم تخرج إلا من رحم الشعور بالعجز والهزيمة، الذي أصاب شرائح العاجزين والمهزومين بالإحباط واليأس، فلم يروا من الكأس إلا نصفه الفارغ، ولم يقرأوا من التاريخ إلا اتعس صفحاته، ولم يجدوا في الانتماء إلى الأمة ما يعتزون به، ولا في شعوبها خيراً يمكن المراهنة عليه. ولا في عمقها الحضاري ما يمكن التعويل عليه والاستقواء به. وكان طبيعياً إزاء ذلك أن يسهل عليهم الانخلاع من الذات، والارتماء في أحضان الآخر، والتسليم بالهيمنة الإسرائيلية. المفجع في ذلك كله أن الذين صبوا سخطهم على الانتماء العربي والقومية العربية والعمل العربي المشترك، لم يفكروا لحظة في توظيف تلك العناوين على نحو إيجابي، واستخلاص عناصر القوة والعزة فيها، لكي تكون رصيداً يستثمر في الدفاع عن كرامة الأمة والنهوض بها. والذين راهنوا على المخلص الأمريكي لم يخطر على بالهم أن يراهنوا على الشعوب التي ينتمون إليها، او على إصلاح الخلل في البيت الذي يقيمون فيه. وأولئك الذين شغلوا أنفسهم بتدبيج حيثيات إدماج اسرائيل في النظام الإقليمي، لم يفكروا في مناقشة كيفية إصلاح النظام العربي. وتلك هي الهزيمة بعينها. لقد قلت في البداية إن هذه أم الكوارث وأعلى درجات الانكسار، وهو تشخيص لا مبالغة فيه، لان هزيمة نكراء من ذلك القبيل الذي نحن بصدده، اذا ما تمت بلا حرب، وأصبحت مجرد صدى للحرب ضد العراق، وحين يتمثل التجلي المباشر لها في الإلحاح على التفكيك والانبطاح اللذين يرتبان الانتحار السياسي والحضاري، فان بطن الأرض يصبح خيراً من ظهرها، بالنسبة لكل الشرفاء من أبناء هذه الأمة. لكن عزاءنا في أن أصحاب تلك الدعوات، وان علت أصواتهم او تعددت منابرهم، فانهم يظلون أقلية استثنائية في محيط هذه الأمة، التي ما زالت أجيالها الصاعدة مستعدة للموت دفاعاً عن عزتها ووجودها. وعلى تلك الأجيال وحدها نراهن، واثقين من انه لن يصح في النهاية غير الصحيح.. وان الله ناصر من ينصره.