خلال ثلاثة عقود ماضية، كان سوق ( المياس ) الشعبي في موضع متقدم ومتميز على الخارطة التجارية في محافظة القطيف، إذ كان هذا السوق يعرف بسوق الخميس الشعبي المشهور قبل أن تقوم البلدية في المحافظة ببناء موقع مجهز خاص بهذه المناسبة التجارية الأسبوعية المتوارثة، تبعا لحجم التجارة والتعامل وكثرة الباعة والمتسوقين يوم الخميس من كل أسبوع، ليس من المحافظة بل من كافة نواحي المنطقة الشرقية، فضلا عن الزوار من خارج المنطقة. ورغم هذا الانتقال من السوق القديم في ( المياس)، إلى الجديد، على شارع الملك فيصل، قبل اكثر من 10 سنوات إلا أن سوق المياس لم يتغير حينها ولم يفقد وهجه التجاري، بل على العكس ساهمت هذه النقلة في تحويله الى سوق يعمل بفعالية على مدار الاسبوع، بدلا من العمل لساعات محدودة صباح كل خميس، وهنا بدأ التوسع في السوق، الذي ما عاد مقتصرا على نشاط تجاري معين، بل طال كافة الأنشطة التجارية المعروفة، وصار يخدم أهالي المحافظة بتميز.. ونمت العلاقة الحميمية بين المستهلك المحلي في المحافظة والسوق، وعلى اثرها تنامت الحركة التجارية فيها بصورة مذهلة، لدرجة ان التاجر الراغب في الحصول على محل صغير للايجار في تلك المنطقة يلزمه ان يدفع خلوا يصل الى 100 الف ريال، يتوقع ان يرجعها في فترة بسيطة ومحدودة، نظرا لحجم النشاط، ونمو الحركة التجارية، وارتفاع عائداتها ولارتباط اسم ( المياس ) بكل ما هو جيد ورخيص، سواء كان في الوضع الأسبوعي السابق، او اليومي الحالي، كان المستهلكون يأتون بكثافة منقطعة النظير. إلا أن هذا السوق الحيوي، ذا الاستثمارات الضخمة، بدأ يفقد صلاحيته، او ربما انتهت مدة عطائه، وبدأت الحركة التجارية فيه تتراجع، وبدأت أعداد المستهلكين والمرتادين تقل بصورة ملحوظة، فليس بمستغرب في الوقت الحالي ان تجد محلات قد كتب عليها (المحل للبيع لعدم التفرغ) او ( للتقبيل)، فقد لازمت السوق حالة من الكساد والركود ، الا في فترات محدودة من السنة، قبل الاعياد، وحتى على هذا المستوى لا تقاس الحركة في السوق كما كانت قبل سنوات قريبة. ولم يشفع للسوق موقعه المتميز وسط المحافظة، ولا عمليات التجميل التي يبذلها اصحاب المحلات من اجل كسب الزبائن، فالسوق على حد تعبير احد المتعاملين يعاني حاليا من اعاقة شديدة جعلته غير قادر على الحركة، الامر الذي انعكس على مجمل الانشطة الاقتصادية المكونة لهذا السوق الحيوي، المتسيد لفترة طويلة من الزمن، فالعديد من التجار الذين يكادون يتقاتلون من أجل الحصول على موطئ قدم في تلك البقعة الصغيرة مكانيا الكبيرة بما تضمه من تبادل و نشاط اقتصادي عامر، باتوا زاهدين في السوق، وعازفين عن العمل فيه. والزائر للسوق يصاب بحالة من الذهول والحيرة وهو يشاهد بعض المحلات مقفلة رغم مواقعها المتميزة، ويزداد ذهوله إذا ما رأى أكوام البضائع مكدسة، دون حراك، ويرى حالة من التململ في وجوه الباعة، خصوصا في فترات الصباح، حيث يندر المستهلك في مثل هذا الوقت ويؤكد بعض التجار ان ندرة الزبائن والمتسوقين باتت صفة ملازمة و مزمنة. إن الحركة التجارية التي شهدها السوق خلال العقود الثلاثة الماضية انسجمت معها حركة عمرانية وخدماتية ملائمة او منسجمة مع الوضع التجاري، ففي تلك المنطقة يوجد اكثر من فرع للبنوك المحلية، وقرب تلك المنطقة هناك المركز الرئيسي للبريد بالمحافظة، ويبدو السوق مقسما على حسب الانشطة، فهناك مكان للملابس وآخر للمواد الغذائية، وان لم يكن بالدقة، وهناك عدد من ورش صيانة السيارات، التي تؤدي خدمة هامة لمرتادي السوق، عدا البوفيهات والمطاعم والقرطاسيات، ومحلات قطع الغيار، ومحلات بيع المواد الصحية ومواد البناء والمواد الكهربائية وغير ذلك التي استفادت خلال الفترة الماضية من الموقع الخاص بالسوق، فصارت بعض العمارات مخصصة لتأجير المحلات، وبعض المنازل تم تحويلها لتكون محلات تجارية، الا ان كل هذه المحلات باتت في وضع حرج للغاية فالوضع ليس كما كان، وشبح الخسائر لايزال ماثلا امام كافة العاملين، الا ما ندر. محمد احمد العبدالله (متعامل مع السوق) ارجع هذا الوضع في السوق الى منافسة الأسواق الشعبية الجائلة والمتنقلة، التي تعمل طوال ايام الاسبوع، في مناطق قرب منازل المستهلكين، وباسعار اقل بنسبة 5 في المائة عن اسعار المحلات في السوق المركزي، هذه الاسواق المؤقتة ساهمت في بروزالأزمة في سوق (المياس) الذي كان نصيبه وافرا من قلة الزبائن، وقليلا من المشترين، مما يعني المزيد من التراجع في المبيعات، التي قدرت في الاشهر الثلاثة الماضية بحوالي 30 40 في المائة. عيسى محمد علي اوضح ان السوق تراجعت، رغم الاهمية التاريخية لها، كونها اقدم سوق شعبي قائم في المحافظة، بسبب المنافسة بين رجال الاعمال، فقد كانت الحركة التجارية في السوق مغرية للغاية، مما دفع بعض رجال الاعمال العقاريين، الى افتتاح المزيد من المحلات وبناء العمارات لخدمة هذه المنطقة، ظنا منهم ان الحال مستمر، لكن شيئا لم يكن في الحسبان قضى على هذه الآمال، إذ المحلات الصغيرة والمتنوعة، باتت في مواجهة اثنين او ثلاثة من المجمعات التجارية المغلقة، القريبة التي بنيت على حساب مواقف السيارات، فزاد العرض من المحلات، ولكن قل الزائرون من الزبائن، لوجود ازمة المواقف، التي افرزت كوما من المخالفات المرورية، والتي ادت بدورها الى عزوف الزبائن، فالمتسوق الذي يرغب في قضاء ساعة او ساعتين للتسوق، قد يقضى معظم وقته في البحث عن الموقف لسيارته، وشبح صوت رجل المرور يصك مسامعه : " تحرك يا راعي ...." فتعمق شعور لدى الزبائن بأن زيارة السوق تعني مضيعة للوقت، او مخالفة مرورية، او ( ذاك البعيد ) حادث مروري غير متوقع.. فالعمارات ( محلات او مجمعات تجارية) قضت على نفسها بنفسها، كما تبدو الصورة في السوق. أما علي الحداد فيرى أن سوق ( المياس ) لم يعد قادرا على المنافسة امام حركة المجمعات التجارية الهائلة في المنطقة الشرقية، فإذا كان هذا السوق لسنوات طويلة خدم اهالى محافظة القطيف ونواحيها، فإن ذلك كان في وقت عزوف المواطنين اضطرارا عن الذهاب الى الدمام والخبر وسيهات، لعوامل ( منها قلة السيارات)، لكن في الوقت الحالي بات من السهل على المواطن ان يذهب الى المجمعات التجارية، ويقضي كافة احتياجاته في وضع افضل، من كافة النواحي ( ابرزها وجود مواقف السيارات، وتضاؤل احتمالات الحوادث والمخالفات، فضلا عن متعة التسوق وهو العامل الابرز في كثير من الاحيان), واذا لم تتوافر وسيلة المواصلات الخاصة، فإن سيارات خدمة التوصيل الخاصة متوافرة على مدار الساعة، وسيارات الليموزين اكثر من ان تحصى. والأمر الآخر والكلام للحداد لم تعد الحركة التجارية في محافظة القطيف متركزة على منطقة المياس وإن كانت هي الأهم والأبرز في وقت ما فهناك شوارع تجارية باتت اكثر من منافسة، ابرزها شارع القدس الذي يربط المحافظة بالدمام ، فلم يعد سوق المياس بكل صفاته ومميزاته منافسا قويا، بل هو لاعب من اللاعبين، فضلا عن أن المحلات باتت منتشرة في كافة نواحي المحافظة. على ضوء كل ذلك فإن سوق (المياس) بات موقعا ينتظر المزيد من الخيارات التي تنتشله من واقعه الحالي، فالتكدس العمراني، قد خنق العملية التجارية، وقضى عليها، ولابد من نظرة حانية للسوق، قبل ان يلفظ انفاسه تدريجيا وعلى القائمين على مثل هذه الاسواق ان يعرفوا ان لكل سوق فترة صلاحية، كما هو للسلع والخدمات، واذا اريد البقاء لهذه السوق، فلا بد من اجراء تعديلات رسمية واسعة، خصوصا في مسألة الدخول والخروج، ومواقف السيارات، التي تشكل ازمة المستوقين.