لو أننا حجبنا هذا العنوان ووضعنا مكانه عنوانا آخر هو: رسالة من أب عراقي الى الرئيس الأمريكي بوش.. وكذلك طمسنا تاريخها وجعلناه عام 2003م. هل كان الأمر سيتغير وتفقد القصيدة قيمتها ومصداقيتها؟ وما الفرق بين رؤية الشاعر للرئيس الأمريكي ترومان ورؤيته للرئيس بوش الآن رغم الفارق الزمني الذي يصل الى نصف قرن؟ هذه الاسئلة وغيرها تجيب عنها القصيدة التي نشرت في كتاب مستقل صدر عام 1953بالقاهرة تحت عنوان خطاب مفتوح من أب مصري الى الرئيس ترومان، وكتبها الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي في باريس عام 1951م. وننشر هنا مقتطفات منها تعبر عن الهيمنة الامريكية وجبروت القطب الواحد. سألتك - لا ضاحكا هازلا - فقد جمد الضحك فوق الشفاه وما أنا بالسائل المستخف وأنى لأوجس إن لم أخف وأنت بيمناك سر الحياة ألا تملك الذرة المفنية! ولكن أنا أنا وابنتي وفتاتى التي أجن بشوقي إليها هنا -أي زوجتي- وهذا الصديق، وذاك الرفيق، وكل الرفاق بناة الغد أنملك نحن سوى التضحية؟ ألا ننحنى لك يا سيدي @ @ @ على أننى قد أطلت الحديث، ولم تدر يا سيدي من أنا ولكن أنا..أنا..أنا..!؟ ..ولدت لعشرين عاما مضت على مطلع القرن يا سيدي وقد فرغ العالم المستجير من الحرب.. ثم مضى آمنا: يوزع أسواقه الباقيات ويهزأ بالموت والتضحيات. وبالذكريات. وقامت شعوب تهز الظلام بمشرق أحلامها الهائلة وتعلى على خربات الفساد بناء مدينتنا الفاضلة فلما بدأت أعى ما يقال رأيتهم يملأون الطريق تهز الفؤوس ركود الحقول وتغلى بما تحتويه العروق وكانوا يقولون:(يحيا الوطن). حفاة يهزون ريح الحياة ويستدفعون شراع الزمن وساءلت أمى عما هناك (وماذا دهى القرية الساكنة) فقالت: بنى هم الإنجليز يثيرون أيامنا الآمنة وقد أخذوا كل غلاتنا.. وقد نضب الماء في الساقية ولم يبق شىء على حاله سوى حسرة مرة باقية؟ @ @ @ .. ولما كبرت لبست الحذاء ووليت وجهى إلى القاهرة فأبصرت من تحت ثقل السلاح وجوههم الجهمة الحائرة وكنت أراهم وهم يركلون فتى في طريقهم.. أو فتاة وقد ينزعون حجاب امرأة فتصرخ (ويلى من الانجليز) وقد يعبثون بشيخ عجوز فيملؤني الرعب مما أراه - ويرهق سمعى - ما لم أره. @ @ @ ويأتي الخريف بأشباحه وتمشى التعاسات فوق الحقول فأمضى لأطلب علم الكتاب وعلم الكتاب لدينا هزيل وندرس (جغرافيا) ذات عام، ونعرف كل مناخ الدول وألمح في (أطلسى) دولة ومن فوقها حمرة تشتعل فإن كنت يا سيدي قد أطلت.. وقد سقت هذا الحديث الحزين فإنى حزين حزين شقى لبعد ابنتي. حزين أخاف عليها المصير وأنت اب تعرف الوالدين ولست أريد لها أن تموت.. فرفقا وأنت تخط المصير أترمى حماماتنا بالنسور؟! معاذ الأبوة يا سيدي.. فأنت أب: وكلانا حنون ألست تصون حياة ابنتك. فهل تصنع الموت للأخريات وإنى لأدعوك باسم الأبوة؟؟ باسم الحياة.. باسم الصغار. لتعقد حلفا يصون السلام ويرعى المودات بين الكبار فأنت أب قد صنعت الحياة ولن تصنع الموت بعد الحياة لماذا إذن (يا إلهى الرحيم) يذيعون حولك هذا الجنون!؟ ولكن لمن كل هذا العديد؟ وتلك الحشود؟ ولكن لمن كل هذا الهزيم؟ لمن هذه النافثات السموم؟ لمن هذه الناشرات الجحيم؟ لمن تسرق اليوم أقواتنا لتصنع ما شئت من فاتكات؟ لمن تحشد اليوم في السابحات، وفي الغائصات، وفي الطائرات وفي الناشطات. لمن هذه الذاريات الحطام؟.. ولمن هذه النازعات؟؟!! لمن كل هذا؟! لغزو السماء؟.. لتصنع معجزة؟! بل لنا لتحطيمنا لتجويعنا لتخريبنا لتقوى سلاسل أصفادنا ليرتفع السور من سجننا لنشر السواد. على أرضنا لتمزيق أجساد أطفالنا لتمزيق أجساد أطفالنا!!؟؟ ولكن.. كفى! لن تنال ابنتى وأقسم أن لن تنال ابنتى! أتطفىء نظرتها الباسمة أتقطع أطرافها الناعمة؟ أتجرى دماء ابنتى في غد كنافورة ثرة تنسكب أتنثر أشلاءها اليانعات على حيث تضحك بين اللعب؟! أتمزج لحم ابنتى بالتراب!! كفى أيهذا المتأله الذي يلطخ بالوحل طهر السحاب!! أتنهش هذا الكيان النضر! كفى أيها الهمجى الرهيب!! كفى أيهذا (المتأله القذر!) (.....) على التضحيات ويبصق فوق قبور البشر يضمخ لحيته بالدماء وترقصه أنه المحتضر ويسخر من ذكريات النضال ويهزأ بالأمل المزدهر كفى أيها الهمجي الرهيب..! ويا لفحة من بقايا ذنوب ويا خفقة من هوى الغروب فليست دماء ابنتى كالنبيذ.. وليس نبيذا دماء الشعوب @ @ @ ستحيا ابنتي في ظلال السلام.. وتنعم باللعب الوافرة تمارس كل حقوق الحياة حقوق طفولتها الزاهرة ستحيا انطلاقاتها كلها وأحلامها الحلوة الشاعرة وأقسم أن لن تصير ابنتي غدا طفلة لشهيد قضى أتسمعني أيها الهمجى!! ستحيا ابنتى في ظلالى أنا كأسعد ما نتعاطى الحياة أتسمعنى أيهذا (المتأله) ستحيا ابنتى في ظلال السلام وتصبح أنت مع التابعين هواجس من ذكريات الظلام فإن تملكوا الذرة المفنية فإنا لنمتلك التضحية ونمتلك الذرة البانية ونملك طاقاتنا كلها ونملك أيامنا الباقية وتاريخ أجيالنا الآتية.