كيف يمكن يا ترى تقييم التجربة العمرانية التي تمر بها المملكة حاليا , ما واقع عالم البناء وما طموحاته , والى أي درجة تعكس العمارة السعودية المعاصرة واقع وطموحات وتطلعات المجتمع السعودي باختلاف شرائحه , وما التصورات والرؤى المستقبلية للبناء والعمارة ضمن التغيرات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها المملكة؟ هذه بعض الأسئلة التي لا يسع المتأمل في واقع ومستقبل البناء والعمارة في المملكة الا أن يتطرق اليها ويحاول الاجابة عن بعض منها إذ إن الاجابة عنها جميعا وبالتفصيل بحاجة الى اسهاب في شروحات مفصلة ومطولة. واقع البناء في أي مجتمع يعكس الكثير من اوجه الحياة في ذلك المجتمع , ومن اهم الجوانب التي تتحكم في العمارة والبناء في المملكة هناك عدة جوانب ذات تأثير مباشر في واقع هذه العمارة وتأتي آليات التخطيط والبناء في مقدمتها. اعتمدت المملكة منذ نشأتها خطط تنمية طموحة متعاقبه لاعمار البلد في كل المجالات وايجاد مجتمع مرفه , وقد اخذت الدولة على عاتقها مهمة البناء هذه فقامت بانشاء مباني معظم المؤسسات الحكومية ومشاريع الاسكان وعهدت الى مقاولين محليين ودوليين للقيام بعمليات البناء هذه وبذلك اصبحت الحكومة هي الموظف الأول لرأس المال المحرك لقطاع البناء ونظرا لأن الحكومة هي التي تتخذ القرارات في بناء وترسية المشاريع والاشراف على سير عملية البناء هذه، فقد نتج عن ذلك سن انظمة وقوانين من قبل الجهات المختصة في الدولة تنظم آليات البناء. ونظرا للدرو المركزي الذي تلعبه الحكومة في هذا المجال فقد اتسمت هذه الأنظمة والتشريعات بالشمولية , وبالرغم من نبل الهدف لهذه المشاريع المتمثلة في ايجاد مجتمع مرفه الا انها وكأي منظمة تخطيط شمولي يواجه بالكثير من الصعوبات العائدة اساسا الى تجاهل هذه التشريعات للكثير من الخصوصيات المطلوبة في بعض المجالات كالعمارة والبناء. تنعكس السمة الشمولية لآليات البناء في العمارة في المملكة في عدد من الصور , من هذه مثلا انتشار المباني النموذجية للمؤسسات الحكومية في معظم مدن المملكة وبالرغم من ان لكل مؤسسة حكومية (وزارة مثلا) الحق كاملا في ايجاد مبنى نموذجي لها يمكن تكراره في معظم مناطق المملكة الا ان ذلك يصطدم بخصوصيات العمارة التي يأتي احترام الفوارق بين موقع وآخر وبين مكان وآخر وبين اتجاه معماري وآخر وبين ومن وآخر الخ امرا مهما ,. ان من شأن تكرار النماذج المعمارية للمباني الحكومية ان يؤدي الى ظهور عمارة هياكل متشابهة مما يقضي على فرص التنوع والثراء في الأنماط والاتجاهات المعمارية.من ابرز الصور التي يتجلى فيها الخلل من جراء تطبيق التنظيم الشمولي لانظمة البناء نظام الارتداد المعمول به في القطاع السكني كتب الكثير عن هذا النظام , تعزو الجهات المنظمة وجوده الى اسباب وجيهة منها اعطاء كل ذي منزل الحق في الاستقلال بمنزله عن جاره والتصرف في حدود منزله كما يريد , وايضا سرعة الوصول الى المنزل من كل الجهات لاسباب أمنية , والتخفيف من ظهور التجمعات السكنية بمظهر كتلة واحدة صماء وغير ذلك. الا ان تطبيق نظام الارتداد مرتبط بالمساحة والارتفاع المسموح بهما للمالك ضمن حدود الارتداد , إذ إن هنالك ارتفاعات محددة لا يسمح بتجاوزها مما يدفع بأصحاب المنزل الى استغلال كل شبر من لاسماحة المساحة له فيها بالبناء , بهذه الصورة اصبح قانون الارتداد وتحديد السقف المسموح به للبناء عوائق فعليه في بناء مساكن ذات تصميم عصري يناسب تطلعات الكثير من الناس واصبح الفراغ الناتج عن الارتداد فراغا مهدورا لا يمكن الاستفادة منه. والحقيقة ان الارتداد مطلب ملح وهو نظام متبع في معظم قوانين البناء في الكثير من دول العالم الا أن المشكلة ليست في مفهوم الارتداد ولكن في تطبيق هذا النظام وربطه بالأمور التنظيمية الأخرى مثل الارتفاع المسموح به ومساحة الأرض وارتفاع السور , ولذلك ولكي يحقق قانون الارتداد الهدف المرجو منه يجب اعادة النظر في مساحات الأراضي السكنية والارتفاعات المسموح بها , سيصبح مثلا بالإمكان زيادة مسافة الارتداد امام الواجهة الرئيسية للبناء لاستغلاله كحديقة للمنزل وللعب الأطفال مقابل السماح بالارتفاه دورا اضافيا للتعويض عن مساحة الارتداد. هذا مجرد مثال وهناك بالتأكيد حلول مبتكرة كثيرة إذا ما كان هناك اتجاه لاعادة النظر في هذا النظام. يشكل سور المنزل عنصرا هاما من عناصر التخطيط الحضري في المملكة تتصدر اسوار المنازل المفردات المعمارية التي يواجهها المرء بصفة يومية وهي تأتي كترجمة حرفية لنظام الارتداد فالسور هو التطبيق المعماري لنظام الارتداد. غير ان المرء اثناء تجواله في أي مدينة بالمملكة سيلاحظ التنافر الحاد بين السور والبناء الواقع خلفه وهو بناء سكني في معظم الأحيان . ولان لكل بناء سكني مفرداته المعمارية وهي علي أية حال ليست الشيء المميز التي يختلف بها عن منازل الأخرى المجاورة له , ومع تكرار عناصر التنافر هذه بين الاسوار والمنازل فقد نتج عن ذلك نسيج حضري يزدحم بكافة العناصر المعمارية مما يسبب اجهادا للبصر وارباكا للذاكرة وتشتتا في الوحدة العمرانية التي يجب ان تتسم بها المدينة العصرية الحديثة وما يقال عن الاسوار يقال ايضا عن الكراجات والتي تبدو وكأنها لا تنتمي ابدا الى الابنية الخاصة بها, وفي حقيقة الأمر فإن العلاقة بين السور والبناء خلفه من الممكن أن تكون في غاية الابداع إذا ما تم ربط السور معماريا وتم ايجاد ترابط بصري وفراغي بين السور والبناء , وتبقى هذه العلاقة احدى ابرز التجليات العمرانية التي يجب على الجهات المعنية البت فيها سريعا. هذه بعض الأنظمة الناجمة عن التطبيق الحرفي لبعض انظمة ذات الطابع الشمولي ويبدو واضحا ان هناك حاجة ملحة لادخال بعض التعديلات على هذه الانظمة إذا ما اريد التغلب على المشاكل الناجمة عن ذلك.والعمل جار الآن للخروج بقانون موحد للبناء في المملكة ويأتي قانون الارتداد بالطبع ضمن اهتماماته و ويعتبر صدور هذا القانون نقلة نوعية في آليات البناء في المملكة. غير أن الجوانب الجمالية والحضارية في العمارة والبناء تظل مسؤولية المكاتب الهندسية التي تصمم وتشرف على تنفيذ المخططات السكنية وهذا ما يقود الى الحديث عن دور هذه المكاتب في اثراء المشهد المعماري من حولنا وعن مساهمة طرق التعليم المعماري في المملكة في ذلك , وهذه مواضيع مرتبطة ببعض وتحتاج الى المزيد من التفصيل للخوض فيها. هذا عن الجانب المتعلق بانظمة البناء التي تضطلع الحكومة بسنها والاشراف عليها، الآلية الهامة الأخرى التي تتحكم في صناعة البناء هي اليات اقتصادية , فنظرا لاعادة الهيكلة التي يمر بها الاقتصاد السعودي اليوم فقد بدأت الدولة تتخلى عن الاشراف المركزي على عملية تمويل البناء وبدأت باسناد الكثير من الخدمات الى القطاع الخاص ولذلك فإن من شأن هذا التحول أن يحدث تغييرا جذريا في الكثير من الآليات التي تحكم عملية البناء في المجال الاقتصادي , على ان ترجمة ذلك في ارض الواقع عمارة وتخطيطا سيأخذ بعض الوقت الى ان يتم تجاوز المرحلة الانتقالية من الاقتصاد الحكومي الى اقتصاد القطاع الخاص. ولعل سياسة التخصيص هذه ستمكن من التغلب على مشكلة الاسكان التي بدأت ملامحها تلوح في الافق , يمثل الظهور اللافت لشركات الاستثمار العقاري والتطوير العمراني في الآونة الأخيرة بداية لحقبة من آليات اقتصادية جديدة في البناء حيث بدأت هذه الشركات في الاخذ بزمام المبادرة في تطوير قطاع السكن الخاص في عدد من مدن المملكة وهي آلية بناء جديدة لم يعهدها المجتمع السعودي من قبل. غير أن هذه الآلية يجب أن ينتج عنها انماط تخطيط وبناء جديدة كلية تختلف عن تلك المخططات والعمائر التي هيمنت على المشهد المعماري السعودي قرابة نصف قرن من الزمن . إذ يجب الاخذ بعين الاعتبار المعايير الجمالية والتخطيطية عند ارساء المخططات السكنية , وهذا يتطلب الموازنة بين ما هو اقتصادي وهو مطلب هذه الشركات وبين ما هو جمالي وهو مطلب كافة افراد المجتمع لانتاج مخططات عصرية ومبان مميزة تلبي طموحات عريضة ومتباينة من المجتمع السعودي الذي بات تواقا الى رؤية نقلة نوعية جديدة في بيئته العمرانية. وإذا كانت الخصخصة هي عنوان المرحلة الاقتصادية المقبلة التي ستنمو فيها العمارة والبناء فإنه من المهم أيضا احداث نقلة نوعية في الاليات الحكومية التي تنظم وتشرف على عملية البناء هذه في ظل الواقع الاقتصادي الجديد.غير أن هذه التطلعات لا تلغي حقيقة ان العمارة السعودية المعاصرة قد عرفت في العقدين الماضيين نقلة نوعية في العديد من المجالات ., ولا تكاد تخلو مناسبة يتم فيها تكريم اعمال معمارية مميزة ولا للمملكة فيها نصيب , ولقد اصبحت بعض المباني في المملكة نماذج يحتذى بها في التصميم المعماري المعاصر اليوم. تزخر كتب تدريس العمارة بمبان من ارض المملكة مثل بناء البنك الأهلي التجاري , قصر طويق , مطار الملك خالد جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران , منطقة قصر الحكم بالرياض وغيرها من الابنية التي تؤكد ان العمارة السعودية المعاصرة قد بلغت شأنا رفيعا غير أن هذا النجاح الذي احرزته هذه الأبنية يجب ان يعمم على كافة الانسجة الحضرية للمدن السعودية . وهذا هو الشعار الذي يجب أن ترفعه الجهات المعنية بالعمارة والبناء في المرحلة القادمة ان شاء الله. هاني القحطاني متخصص في العمارة والتخطيط جامعة الملك فيصل الدمام العمارة السعودية لها شخصيتها