غلب على معظم المقالات التي تناولت حادثة التحرش «الشهيرة» في (الظهران مول) الميل إلى «تذكير» التحرش الجنسي، باعتباره سلوكا عنيفا يصدر دائماً عن الذكر ويستهدف الأنثى، التي تمثل، وفق التصور المجتمعي، القطب السلبي من ثنائية التحرش. وغلب على تلك المقالات، أيضاً، غياب الاهتمام ببلورة تعريف أو تعريفات بأكبر قدر من الدقة للتحرش الجنسي، وكشف مختلف الأنواع والأشكال التي قد يتجلى بها، كمقدمة ضرورية لمشروع سن القوانين والعقوبات، ووضع كل ما يلزم من إجراءات لمكافحته. لابد من التنبيه إلى أن حدوث التحرش لا يتطلب عنصر القوة دائماً، وهذا ما يجعل مكافحة التحرش عملية بالغة التعقيد والصعوبة، وتستلزم بلورة تعريف دقيق له، وتحديد وتشخيص كل الأشكال التي قد يظهر بها، كمتطلب ضروري لمشروع المكافحة والمعاقبة التحرش الجنسي ليس سلوكاً شاذاً ينفرد به الذكر، وليست الأنثي هي الهدف الدائم له. التحرش قد يكون ذكورياً - ذكورياً، أنثوياً - أنثوياً، وأنثوياً -ذكورياً. لكن غالباً ما تغيب هذه الأنواع الثلاثة عن الأذهان عندما تُذْكَرُ كلمةُ «تحرش». ولعل تكرار وانفضاح حالات التحرش الذكوري-الأنثوي، وهيمنة صورة الرجل الأقوى والأجرأ من المرأة وصاحب المبادرة في العلاقات بين الجنسين أسهمت في ترسيخ فكرة ذكورية التحرش. ما حدث في (الظهران مول) تحرش ذكوري من النوع الفاضح والمُعَرِي لذاته بوقاحة غير مسبوقة، ولا يمكن أن يترك مرتكبوه بدون إنزال عقاب قاس بهم. هذا أمر أعتقد أنه لا يختلف عليه اثنان. لكن لا استبعد أنه في الوقت الذي صوبت فيه الكاميرات لتصور «متحرشي الظهران مول» والفتيات ضحايا تحرشهم كانت أنواع أخرى من التحرش تحدث داخل المجمع، ومنها ما تكون الانثى هى الطرف المبادر بالتحرش فيها. لكن الأخيرة ستحدث وتنتهي بدون انفضاحها، لأن الطرفَ المُتَحَرَّشَ به، وهو الرجل، سيكون عالقاً في شرك الصورة السائدة عن الذّكر بصفته المُطَارِد دائماً وليس الطريدة، ما يجعل اعترافه بانقلاب الأدوار مستبعداً؛ درءاً للفضيحة وتعرض رجولته/ذكوريته للإهانة، وقد يَفِرُّ هَلِعاً مرتبكاً من أمام من تتحرش أو يتحرشن به، كما فعل أحد الشبان في مجمع آخر. هذه الحادثة ومثيلاتها لن تصلَ إلى مراكز الشرطة، فمن ترتعد فرائصه خجلاً أو رعباً من فتاة بادرته بالتغزل فيه لوسامته، مثلاً، لن يجرؤَ على التفكير في إبلاغ الشرطة، أو حتى التحدث عنها مع أصدقائه، أو -وهذا محتمل- لن يصدقه أحد سواء بلّغ أو تحدث عنها. التحرش نوع من التنمر/البلطجة، فيه يتنمر طرف قوي على آخر ضعيف. والتقاء امرأة جريئة ذات شخصية قوية برجل خجول وذي شخصية ضعيفة، يشكل مناسبة مثالية لانقلاب الدور. وانقلاب الدور هو ما حدث في الفيلم الأمريكي ((Disclosure) حين تحرشت ميريديث جونسون(ديمي مور) إلى حد الشروع في الاغتصاب بتوم ساندرز (مايكل دوغلاس) صديقها السابق، ومرؤوسها بعد ترقيتها إلى مديرة لشركة (دِيجيكَمْ) لصناعة الكمبيوتر. كانت الطرف الأقوى والأعلى لكونها المديرة، لهذا لبىّ توم طلبها أو أمرها بالمجىء إلى مكتبها في المساء بعد ذهاب الموظفين لمناقشة مشكل تتعلق بالانتاج، بينما كانت غايتها إحياء علاقتهما القديمة. بعد دخول توم مكتبها، بدأت ميريديث بطلب أن يريها صور أسرته، ثم تدليك كتفيها، انتهاء بمشهد الاجتياح الجسدي المثير. كانت تراهن على إذعانه لأنه سيخسر الكثير لو رفض، أكثر مما ستخسر هي. تنجح ميريديث في البداية في إغرائه رغم رفضه المتكرر لكونه متزوجاً، لكنه سرعان ما يسترد قدرته على التحكم بنفسه والتخلص منها، ليكتشف في اليوم التالي أنها رفعت ضده دعوى بتهمة التحرش بها. امتياز القوة والسلطة هو ما جعل ميريديث (ديمي) تحتل الموقع الذكوري تقليدياً؛ لكن لا بد من التنبيه إلى أن حدوث التحرش لا يتطلب عنصر القوة دائماً. هذا ما يجعل مكافحة التحرش عملية بالغة التعقيد والصعوبة؛ وتستلزم بلورة تعريف دقيق له، وتحديد وتشخيص كل الأشكال التي قد يظهر بها، كمتطلب ضروري لمشروع المكافحة والمعاقبة. [email protected]