يخرج في منتصف الليل عندما يكون القمر مكتملا يتوسط السماء والنجوم المضيئة تحيط به من كل جانب, يلبس افضل ما عنده من ملابس وفجأة يختفي عندما يبدأ المسير الى خارج المدينة حيث الهدوء والسكينة بعيدا عن الضوضاء والمشاعر المنفعلة والمصالح المتضاربة. اكثر من شخص في الحي الذي يقطنه يحاول معرفة اين يقضي الرجل الذي قارب الخمسين وقته في تلك الليالي القمرية ولكن الجميع يخفقون في تقصي اثره وعندما يأذن الصبح بالقدوم يعود على حين غرة الى الحي ويدخل شقته السكنية القديمة التي يعيش فيها منذ سنوات وحيدا لينام.. ليكرر في الليالي التالية نفس العملية لمدة خمس ليال تبدأ من ليلة اكتمال القمر. اهل الحي يعرفونه بانعزاله وسكينته, شباب الحي لا يفهمونه, يفشلون في مجالسته مثلما فشلوا في متابعته, يزيدهم هذا شوقا لمعرفة سره وغموضه.. ومع غياب القمر في ليالي الشهر الاخيرة يبقى منكفئا على ذاته اكثر فلا يخرج من مسكنه الا نادرا.. في يوم ما يقبل على الحي ساكن جديد اختاره بالذات لقلة ساكنيه وتميزه بقلة الازدحام, يحسن معاملة السكان لاسيما الشباب فيجلس معهم ويتحدثون في شتى الامور, اخبرهم بانه أتى من مدينة بعيدة من اجل الدراسة وفجأة يخرج الرجل الكهل, ينظر اليه الساكن الجديد بتأمل لاارادي بينما يحملق فيه الرجل الكهل بشدة ثم يستقل سيارة اجرة ويذهب الى شأنه, يخبره السكان عن غموضه وغريب اطواره, يدفعه الفضول الى معرفة سره وكنه حقيقته, يضمر في نفسه رغبة ملحة لمعرفة الحقيقة.. بعد ايام وعندما يخرج الرجل الكهل من مسكنه يعطي اشارة البدء فيجتمع حوله مجموعة من شباب الحي فيتوجهون الى شقة الرجل الكهل, يقترح احدهم ان يدخلوا من النافذة فيستحسنون الفكرة ويهمون بتنفيذها وبعد عناء يجدون انفسهم بالداخل, لايجد الساكن الجديد اي شي غير عادي سوى احتواء احدى الغرف على عشرات الكتب القديمة المكدسة التي ينبعث منها الغبار وتقبع فيها الاتربة واكوام من الملابس التي تحتاج الى تنظيف ومبلغ متواضع لربما يكون ما تبقى من راتبه التقاعدي.. يهمون بالمغادرة ولكن صوتا جهوريا حسن الطالع يناديهم هل وجدتهم ما تريدون يرتعدون من الخوف ويقفون بجوار بعضهم البعض, تلوح منهم التفاتة فاذا بالرجل الكهل واقفا امامهم, ينظر اليهم بشدة ويركز النظر الى الساكن الجديد, ولكن الساكن الجديد لم يتمالك نفسه ويقدم له شديد الاعتذار يشاركه الشابان ولكن الرجل الكهل يصر على سكوته المطبق وعدم نطقه يستمر الموقف لعدة دقائق وبعدها يطرق الرجل الكهل رأسه الى الارض فيعتبرون ذلك اذنا منه بالمغادرة فيخرجون تباعا تتابعهم نظراته.. الساكن الجديد يضمر في نفسه عدم الرضوخ لغموض الرجل الكهل فيقرر تتبعه في الليلية القمرية..يخرج الرجل الكهل كعادته في ليلة القمر الاولى يقتفي اثره على بعد ولكنه يختفي فجأة رغم تركيز الساكن الجديد على تتبع خطواته ولكنه لايستسلم يقرر تتبعه في الليلة الثانية فيضيع اثره مرة اخرى وهكذا تستمر اخفاقاته طوال الليالي القمرية, فيقرر المتابعة في الشهر القادم ويبدأ محاولاته الحثيثة مع بداية الليلة القمرية الاولى ولكنه يفشل فيعاند ويكابر ويرفض الاستسلام وتمر الشهور ثقيلة عليه وهو يحاول كشف سره الى ان قرر ان يكون الشهر الثامن هو الشهر الحاسم في محاولاته المحمومة لكشف سر الرجل.. في الليلة القمرية الاولى من الشهر الثامن يخفق كالعادة في تقصي اثر الرجل الكهل فتنتابه حالة من اليأس والقنوط فيتوقف عن المتابعة بقية الليالي الا انه في الليلة القمرية الاخيرة اثر ان يخرج في طلب سر الرجل الكهل وأقسم ان هو اخفق ان يغادر الحي والى الابد وما ان بدا المسير حتى انتابه الياس مجددا فقرر العودة منه حيث اتى وما ان هم بالرجوع للخلف حتى سمع صوتا يخاطبه. تعال يا بني اقترب مني ولاتخف اقترب منه بحذر شديد وهو يكاد يغمى عليه من الخوف فالطريق بعيد عن العمران والهدوء الرهيب يخيم على المكان.. نظر له الرجل الكهل والابتسامة الحانية تبدو على محياه.. خاطبه قائلا لقد ظللت لسبعة اشهر خلت تطاردني في مثل هذه الليالي اليس كذلك؟. نعم وسوف تكون هذه الليلة الاخيرة. لماذا يا بني لقد تعبت من متابعتك, ولم استطع كشف سرك. هل تعتقد اني استحق كل هذا الاهتمام. لا ادري ولكن تصرفاتك غير مألوفة وهل كل تصرف غير مألوف يصبح صاحبة حاملا لسر دفين وامر غامض.. اتبعني يابني. فمشى وراءه وقد انقشع الخوف من نفسه. نظر الرجل الكهل للساكن الجديد وقال له: تأمل يا بني هذا الوجود من حولك انظر الى هذا القمر الجميل ونوره الذي يضيء لنا المكان في بهاء وجمال وسحر لاتوفره لنا تلك المصابيح الاصطناعية, هل تحس بالهدوء والسكينة وانت هنا في الطبيعة الخلابة بعيدا عن الضوضاء المفتعلة والاحاسيس البعيدة عن الفطرة.. ظل الساكن الجديد صامتا الى ان وصلا الى بحيرة صغيرة. ما رأيك بهذه البحيرة انها ليست اصطناعية بل طبيعية نشأت منذ فترة طويلة من الزمن. نعم انه مكان جميل حقا ولكن اكنت تجلس طوال هذه الليالي عند هذه البحيرة بالطبع كنت اقضي معظم ليالي القمر اتامل في هذا الوجود بعيدا عن الناس.. عن الضوضاء.. عن المشاعر الاصطناعية.. عن الاحاسيس المجردة من الصفاء والحب.. والنفوس البعيدة كل البعد عن معنى السكينة.. في كل ليلة قمرية اجئ الى هنا اشعر بتجدد في حياتي يمكنني من مواصلة مشوارها الطويل الذي لا اعرف متى ينتهي. واهالي الحي الذين يعتقدون بان عندك سرا دفينا وامرا غامضا. لقد غلبت عليهم المدنية بماديتها وافاقها الظلماء فتصوروا ان كل شي خرج عن جادته بما تحمله من رتابة في حياة الانسان وبما جبلت عليه طباعه من اصطناعية وازدواجية لابد ان يحمل سرا غامضا. ان ما تقوله صحيح ان انسان المدنية الحديثة اصبح مجرد آلة ونسى الطبيعة الخلابة وتجرداتها الفطرية التي تسمو بالانسان فوق مستوى المادة واحتياجاتها اللامتناهية. انظر يا بني الى هذا القمر المنير وما حوله من نجوم متناثرة, تأمل في هذه العين الجارية في هذا الليل البهي الى هذه الاشجار المتناسقة هل ترى فيها اي زيف او خداع ام انها الحقيقة العصماء في اجمل صورها..؟! لم يجد اي جواب سوى التسليم بزيف الحياة التي كان يعيشها وانهالت منه دموع الندم على تلك السنوات التي ذهبت من عمره دون رجعة ثم التفت الى ناحية الرجل الكهل فلم يجده.. ناداه مليا فلم يجبه فعلم انه اختفى كعادته. عاد الساكن الجديد الى الحي وحزم امتعته في رحلة جديدة لاكتشاف الحقيقة التي لم يلتفت اليها في يوم من الايام.. لقد قرر اكتشاف تلك القوى العظيمة التي ستحرر الانسان من براثن الحضارة الصناعية التي حولت الانسان الى مجرد قيمة اقتصادية بعيدة عن انسانيته وفطرته وحقيقته, نظر الى الرجل الكهل الذي كان يحتسي القهوة فتوقف عن احتسائها للحظات متاملا في وجهه ثم عاد لشربها مرة اخرى وكانه يقول له (انت الوحيد الذي كشفت له سري ولكن عليك ان تكتشف سر ذاتك المنكفئة على ماديات الحياة وجزئياتها الصغيرة.. رائد درويش من المحرر افكار جيدة وسرد يقترب كثيرا من السرد القصصي وان تحول في نهاية القصة الى حوار وعظى لاتحتمله القصة القصيرة يارائد.. التكثيف مطلوب, وترك مساحة للقارئ لكي يفكر امر مطلوب ايضا.