كثيرا ما نفاجأ بحصول مبدع مغمور على جائزة , أو نتعرف على آخر من خلال دراسة ناقد لنتاجه , بينما لا يحظى المشاهير - في الغالب - بمثل هذه الجوائز أو الدراسات , بحجة أن نتاجهم لا يرقى إلى الدراسة , وإن بلغت شهرتهم الآفاق . وهذه رؤية كثير من النقاد قديما وحديثا , حتى وجدنا من يقول : إن المتنبي حكيم وليس بشاعر , ومن يصف شعر نزار قباني بأنه قمة التخلف . إذن الشهرة شيء والجودة شيء آخر ؛ وهذا ما دعا الجاحظ للقول : " صرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجود منه " (البيان والتبيين ص 20 ) . وليست هذه الرؤية مقصورة على النقاد , بل إن بعض المبدعين يرون الرؤية نفسها , ويكفينا أن نمثل بما رواه ابن رشيق ( العمدة ) عن الأخطل أنه قال للفرزدق : أنا والله أشعر من جرير، غير أنه رزق من سيرورة الشعر ما لم أرزقه , وساق بعض الأبيات للمقارنة , لا مجال هنا لذكرها . ومع أن الأخطل اكتشف أنه الأجود , وبرر شهرة جرير بالسيرورة , فإنه لم يخبرنا عن أسباب تلك السيرورة , كما أن أحدا لن يخبرنا بشكل أكيد بذلك , ولو قدم تعليلات لها .إن عالم الإبداع عالم غامض متشابك , وأكثر جوانبه غموضا ( ما وراء السيرورة) , نسعى لاستكشافة بحثا عن تفسير له, لكنه لا يكون فصلا أبدا . وهذا الغموض في الإبداع هو سر جماله , فالدراسات التي تناولت الإبداع عموما و الشعر خصوصا كثيرة , ومع ذلك فإن الإبداع دائما يفاجئنا بخلافها .