كنا فريقين ونحن طلبة، فريق يتعصَّب للفرزدق والآخر لجرير كما يفعل جمهور الكورة الآن بين الهلال والنصر أو الأهلي والاتحاد! وقد شاعت النقائض (التهاجي) بين جرير والفرزدق، فكنا كلما ظفرنا بأبيات قوية حفظناها وأسمعناها الجمهور المضاد بصوت عالٍ طروب! وقد شجع بنو أمية الشاعرين على التمادي في النقائض ليشغلوا الناس عن السياسة، وقد يكون هذا حسناً لأن السياسة تفسد إذا طال جدل العامة حولها.. فأكثر العامة في السياسة لا يفقهون، لكنهم على استعداد للجدل حولها وكأنهم يعلمون أسرارها، وهم أجهل الناس بها في كل زمان ومكان، ما لم يعم التعليم الجيد في مناهجه، والوعي الحقيقي بنبض المجتمع وظروفه وجذوره، ويسود التسامح وقبول الرأي الآخر برحابة صدر.. ويندر أن تتوافر هذه الصفات الجميلة في المجتمعات النامية مع الأسف.. يوجد في المكتبات مجلدات كاملة من نقائض جرير والفرزدق، وأحسن من حكم بينهما فنياً الذي قال: (جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر) فجرير كثير الشعر عذبه، والفرزدق شعره قليل جزل، وقد انضم للأخير عدد كبير من الشعراء يساعدونه في هجاء جرير - منهم الأخطل، غير أن جريراً تصدى لهم جميعاً بقوة وبأس.. وحين سأله شاب: من أشعر الناس؟ أخذ بيده وأدخله بيتاً قديماً وأراه رجلاً يرضع من الشاة مباشرة وقال: أشعر الناس من فاخر ثمانين شاعراً بهذا الأب.. وغلبهم!!