كان المبدع القديم يكتب وفق شكل هندسي ثابت لا يتغير , عُرفت حدود بياضه وسواده , فانحسر دور المبدع في تشكيله , وانحصر دور المتلقي في تأويله . ظل السواد مهيمنا على النصوص لفترات طويلة , يحدد بناها ويحصر دلالاتها حتى ظهر البياض وانتفض ثائرا على تلك الهيمنة , فأخذ يتسرب إلى النص باحثا عن مكان له في بنيته , وفاتحا لفضاءاته . ويظهر أن البياض استطاع أن يتحرر من كونه مجرد فضاء يحيط بالنص , ويحدد معالمه وغدا عنصراً مهماً في تشكيله , لا يقل أهمية عن السواد , فإذا كانت الكتابة تمثل البعد الإبداعي للمبدع ، فإن البياض أصبح لعبة القارئ . هذا الغزو البياضي للنص أضحى من تقنيات الكتابة الحديثة ؛ وخاصة عندما يترك - في عصر القراءة - مساحة لإبداع القارئ , كي يبني الدلالة الكبرى , استنادا إلى إن النص الجيد هو النص الذي " لا يستهلك نفسه " كما تقول نبيلة إبراهيم ؛ لأنه يترك فراغات في شكل حيل أسلوبية يملؤها القارئ , بخلاف النص المغلق , الذي يصادر مخيلة القارئ , ويجعل دوره محدوداً في إنتاج النص . هذا الانحسار لدور السواد هو الذي دفع مالارمي إلى القول : " إن للبياض في القصيدة أهمية ظاهرة ، والنظم يقتضيه باعتباره صمتاً يحيط بالقصيدة " , إنه صمت ولكنه صمت بليغ , وبياض دال يشارك في ملئه المتلقي , فيفتح آفاقه , ويثري دلالاته . لقد تحول النص من المسموع إلى المكتوب حتى أضحى كما يقول نزار قباني مسموعا بالعين بدلاً من الأذن . ولم يكتف البياض بالمشاركة المتممة فحسب , بل تسرب إلى نسيج النص , فسيطر على مساحة أكبر على الصفحة , وبدت الكلمات كنجوم داخل الصفحة . والبياض عند المبدع الحق قد يقوم بما لا تقوم به الكلمات ويؤدي إلى توتير النص , وفتح آفاقه , على مخيلات القراء فيغدو النص نصوصا مفتوحة لا تحدها حدود .