تعد قصة السيد جراهام من أكثر القصص تعبيراً عن طموح المتقاعدين وحياة البشر عموماً؛ وقد استشهدت بتلك القصة وكتبتها في بعض مقالاتي وكتبي لفائدتها العظيمة. حيث يروى أن السيد جراهام كان مديراً لإحدى الجامعات البريطانية، وبعد وصوله لسن التقاعد أقيم له حفل توديعي في الجامعة، لكن السيد جراهام فاجأ الحضور بقائمة من الأهداف التي ينوي تحقيقها خلال العشر سنوات اللاحقة، فسخر بعض الحضور منه وقللوا من إمكانية قدرته على تحقيق ذلك، لكنه كان عازماً على فعل ما تحدث عنه فعلاً، وبعد عام واحد من ذلك الحفل قامت رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر بإعادة تشكيل الحكومة البريطانية، وكان السيد جراهام من بين المسؤولين الذين اختارتهم لتولي منصب المستشار لسياسة الجامعات البريطانية، لكن السيد جراهام اشترط على رئيسة الوزراء تحقيق أهدافه العشرين مقابل تولي المنصب الجديد فوافقت على ذلك. وبعد 12 عاماً من العمل أقيل السيد جراهام من منصبه؛ فقرر زملاؤه من الأكاديميين ومدراء الجامعات تكريمه، ففاجأهم أيضاً بكلمته التي ذكر فيها عشرين هدفاً ينوي تحقيقها خلال العشر سنوات اللاحقة، ومن بينها تأسيس مركز الاتصالات الأول والأقوى في العالم، كان ذلك وسط سخرية الحضور وتهكمهم، لكن جراهام لم يكن يخطط عبثاً، إذ قررت الحكومة البريطانية تخصيص جزيرة لتنفيذ الحلم الذي تحدث عنه السيد جراهام، فأنشأت مركز الاتصالات الأول في تلك الجزيرة؛ بفضل الأفكار العظيمة التي كان السيد جراهام يؤمن بها ويحلم بتنفيذها. هذه القصة التي أوردتها في أكثر من مناسبة، تعطينا دروساً عظيمة وأمثلة واقعية لأشخاص لم يتوقفوا عن العمل حتى بعد سن التقاعد، تعطينا تأكيداً على أن العمر مجرد رقم، وأن الأحلام والأهداف يمكن تحقيقها حتى عندما تتقدم بنا السنين، فتشيخ عقول المتشائمين، ويبقى المتفائلون في توهجهم رغم تأثير التجاعيد على وجوههم، وندبات الزمن على أجسادهم. ولأن طبيعة البشر وظروف الحياة أجبرت الكثيرين منا على النظر لمرحلة التقاعد على أنها مرحلة للفراغ والهروب من العمل والمسؤولية؛ نتج عن ذلك تخاذل الكثير من الناس عن أدوراهم في الحياة، وتناسوا قيمة وجودهم حتى وهم في أعمار صغيرة. فالتقاعد لا يعني أن تبقى فارغاً، والعمل لا يعني أن ترتبط بجهة معينة لأداء مسؤوليات محددة، والوظيفة لا تعني أن تمارس دوراً محدداً في وقت محدد ونظير عائد مالي محدد، فنحن خلفاء الله في أرضه، أوكل إلينا مهمة عمارة الأرض، واستخلفنا فيها، وتحمّلنا الأمانة التي أبت عن حملها السماوات والأرض. يجب علينا كمثقفين وكتّاب أن نغير من تلك النظرة السطحية للعمل والوظيفة والتقاعد، فالإنسان الذي خلقه الله بيمينه هو كائن عظيم، كرّمه الله وفضله على سائر المخلوقات، وميّزه بالعقل الذي يستطيع عن طريق استخدامه أن يفكّر ويعمل ويغير، والعمل ليس محصوراً في مقر معين. فنحن عندما نخرج من مقرّات أعمالنا مسؤولون في مختلف شؤون حياتنا، بل نحن مسؤولون عن الكوكب الذي نعيش فيه، وعندما نحال إلى التقاعد بعد أن نمضي الفترة المقررة؛ فهذا لا يعني أن تتوقف طموحاتنا ومسؤولياتنا، فيجب علينا أن نتعلم ونعمل ونتفانى حتى آخر لحظات حياتنا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا".