بعد الجولة الثانية من مفاوضات جنيف 2 كان واضحًا أن هناك انسدادات معيقة للانفراج حيال الأزمة السورية التي تراوح مكانها منذ سنوات. بيد أن مجريات الأحداث وردود الأفعال الدولية والإقليمية والميدانية جعلت من اتفاقية جنيف الأولى والثانية ما يشبه مرجعًا للحل السياسي الذي توافق عليه مبدئيًا طرفا الصراع، دون أن يصلا حتى الآن إلى حلول واضحة للأزمة. اليوم، وبعد أن جرت مياه كثيرة، وتحولات عديدة فُرضت أجندات وموازين قوى تغلبت فيها كل من روسيا وإيران، لا سيما في المشهد الميداني الأرضي داخل سوريا، وأصبحت الولاياتالمتحدة شبه عاجزة عن التصدي لهذا الانحراف الكبير في مصير مفاوضات جنيف 3 المزمع عقدها غدًا الجمعة 29 يناير. لقد أصبح المشهد الدولي للصراع في سوريا أكثر بروزًا، لا سيما بعد تدخل الروس جويًا وعسكريًا في حلبة المعارك منذ نهاية سبتمبر / أيلول من العام الماضي، وتفاقمت الأمور بعد إسقاط الأتراك لطائرة روسية منذ أكثر من شهر، الأمر الذي جعل من سوريا ساحة لتصفية الحسابات. وفيما بذلت المملكة العربية السعودية جهودًا جبارة من أجل عقد مؤتمر المعارضة السورية، والذي بموجب انعقاده في نوفمبر من العام الماضي في ظل ضغوط دولية، أصبح اليوم بمثابة مرجعية للمعارضة، إلا أن الترتيبات الروسية في البحث عن قوائم موازية لوفد المعارضة المنبثق عن مؤتمر الرياض بدا أشبه بمحاولة إفشال متعمد لمفاوضات جنيف 3 قبل الشروع فيها حتى، فالروس هذه المرة يراهنون بأكثر من ورقة من أجل نسف إمكانية قيام هيئة حكم انتقالي في سوريا على ضوء مقررات جنيف 2، والدفع باتجاه تكوين حكومة وحدة وطنية في دمشق، يكون على رأسها بشار الأسد، دون أي تنازل عن هذا الخيار. كما يلعب الروس اليوم بورقة الأكراد ضمن تصفيات حساب تستخدمها موسكو ضد أنقرة في الساحة السورية، ولهذا كان إصرارهم وإصرار حلفائهم على أن يستضيف جنيف 3 ممثلين عن الحزب الاتحادي الديمقراطي الكردي بزعامة (صالح مسلم)، وهو ما يرفضه الأتراك ويعتبرونه بمثابة استفزاز لهم. إن الضغوط التي تتم ممارستها اليوم على وفد المعارضة السورية ستكون لها آثار سلبية في المستقبل، الأمر الذي سيفرغ مؤتمر جنيف 3 من مضمونه، ويجعله في مهب الريح، لا سيما بعد أن قرر وفد المعارضة أنه سيرسل وفدًا رمزيًا من ثلاثة أشخاص لمناقشة القضايا الإنسانية مع وفد النظام للخروج من مأزق الضغوط التي تمارسها روسيا حيال تصورها للحل السياسي المرفوض من قبل المعارضة. مع كل ذلك يبدو واضحًا اليوم، أن خيار التفاوض أصبح خيارًا استراتيجيًا لكل من النظام والمعارضة والقوى الدولية. تقترب الثورة السورية من إتمام عامها الخامس، والأوضاع الميدانية لا تزال مضطربة الحظوظ في ترجيح ميزان القوى لأحد الطرفين على الآخر، مما يعني ذلك أن الحلول المستندة إلى الخيارات العسكرية قد تقتضي وقتًا طويلاً، وتؤدي إلى مزيد من الخراب والدمار في سوريا. إزاء وضع كهذا أصبحت الأزمة السورية قضية في يد التدويل وتدخلت فيها أطراف إقليمية ودولية كثيرة. مع اختلاف كبير في المصالح والإرادات. الأمر الذي يعني أن المسار التفاوضي للأزمة السورية هو المصير الذي في متناول القوى الدولية. يدرك الطرفان نظامًا ومعارضة أن الضمانات الدولية للتفاوض هي فقط التي قد تجعل من إمكانية الحل السياسي خيارًا واقعيًا وممكنًا، وأن الحاجة إلى تكثيف فرص التفاوض، وممارسة الضغوط الدولية على النظام والمعارضة باتت الأكثر قدرة على تليين المواقف. لكل تلك الرهانات الممكنة للحل السلمي لا تزال تفاهمات جنيف التي تم إقرارها في مؤتمري جنيف 1 و2 هي الإطار الأكثر قدرة على تحقيق اختراقات حيال الأزمة السورية المستفحلة.