ماأصعبَ أن يكتبَ الإنسانُ إلى أحبّ الناس لقلبه. ويزداد الأمرُ صعوبة ومشقة إذا كان ذلك الإنسانُ هو الوالد. ويبلغ الحالُ ذروة الألم إذا كان الوالدُ متوفيا.أكتبُ هذه السُّطور بيدٍ مرتعشة،وقلبٍ ينتفضُ ألما؛فلا اعتراض على قضاء الله تعالى ولارادّ لحُكمه سبحانه،وإني على فراق أبي لمن المحزونين الصّابرين.قد يتصوّرُ من يقرأُ هذا الكلام،بأن سيّدي الوالد توفي بالأمس القريب،أو منذ عام على الأكثر. كلا،فوالدي غفر اللهُ له قد أكمل سبع سنين منذ انتقاله إلى جوار ربّه تعالى. ومع مرور كل تلك السنين؛لم أستطع أن أمسك بالقلم وأكتب له أو عنه سطراً أو سطرين. وماعساي أن أكتب؟! وماعساي أن أقول بحق رجُل كان لي الوالد والأخ والصّديق؟! ولقد هممتُ كثيراً حتى وأنا أدوّن هذا الكلام؛أن أترك القلمَ والأوراق،وأنطلقَ بعيداً وباكياً كما أفعلُ كلما مرّت ببالي ذكرى أبي رحمهُ الله. لكني تخيّلته ،عليه شآبيب الرحمة والمغفرة،ينظرُ إليّ وأنا منكبٌ على مكتبي،منهمرةٌ دموعي،فيجعلني ذلك أستمر في مخاطبته،حياءً أن أقطعَ الحديثَ معه. وكم استمتعتُ بالإنصات إليه زمناً طويلا،ناصحاً ومؤنباً ومعلما،وكم أسعدني بحنانه وسعة قلبه،وهو يسمعُ منّي كلاماً ربما لايكونُ له معنىً هاماً في حضرة مايقوله غفر اللهُ له. أما اليوم،وقد طاوعتُ نفسي،وهي قد طاوعتني في الكتابة عن والدي أسكنه اللهُ تعالى فسيح الجِنان،فإني أوجّه الحديث لمقامه الرفيع بروحي وأقول له:سلامُ الله عليك ياأبي،ورحمةُ الله تعالى تغشاك. ياوالدي الكَبير قَدراً بنفسي،المتعاظم محبّةً بوجداني.أكتبُ إليكَ بعَبراتٍ مُنسكبة،ومشاعر مبعثرة،وزفَراتٍ متلاحِقة. أكتبُ إليكَ وأنا أتذكّر ذلك المسَاء المُوحش؛حين دخلتُ غرفتك ولم أجدك.وكنتَ قد سكنتَ تلك الليلة قبركَ رحمك الله. أكتبُ لكَ ياسيّدي؛وأنا أتذكر حين كاد فؤادي أن ينفطر حُزناً وألماً على فراقك،لولا رحمةُ الله تعالى التي تداركتني. ولتضمّني والدتي حفظها الله؛وكأنني طفلٌ صغير اختزنَ أوجاعَ الدنيا بقلبه. أكتبُ لك ياحبيبي،والقلمُ يسقط من يدي المرّة تلو الأخرى،وأنا أغالبُ دموعي محاولاً إكمال هذا المقَال! أكتبُ لك وعنك ياأجملَ الوجوه،وأغلاها بذاكرتي.أكتبُ لك ياوالدي،وأنا أتذكّرُ أوّل صباح اصطحبتني فيه إلى المَدرسة،تلميذاً بالصفّ الأول الابتدائي. وسأذكر هنا موقفاً من مواقف عديدة وسعيدة تزدحمُ بها ذاكرتي؛وذلك حين زرتني،رحمك اللهُ،بمدرستي المتوسّطة سائلاً عن مستواي الأخلاقي والتحصيلي،فيجيبك الأستاذُ بما يسرّك،لتنطلق نحوي مقبّلاً رأسي وسط دهشة أستاذي وزملائي الطلاب! وتمضي الأعوامُ وأنتَ ترقبُ خطواتي المتعثرة،وخطوات إخواني،من مرحلة دراسيّة لأخرى؛غير عابئ بصحتك التي تتردّى يوماً بعد آخَر. بل إنكَ،غفر اللهُ لك،فاجأتني وأسعدتَني كثيراً كثيرا؛وأنتَ تزورني في دراستي الجامعيّة بمدينة الباحة،لتدخُل عليّ وعلى زملائي القاعة،بقلبك الذي يفيضُ حناناً على ابنك،وأبادرك أمام أستاذي الدكتور صالح دُخيخ الغامدي،وأقبّل رأسَك الشامخ مفتخراً بك وبوجودك ياسيّدي. ويستمرُّ نهرُ عطائك في التدفق رحمك الله؛لتزورني في مدرستي الابتدائية بآل موسى،وأنا في مرحلة التدريب. وإذا بك ياوالدي تدخلُ مكتب المدير؛سائلاً ومستبشراً عني،بل وتوجّه الدعوةَ للمدير وزملائه المعلمين ليزورونا بمنزلنا. ثم تغادرُ المكتب،ويلتفتُ نحوي المربّي الكبير والأستاذ الفاضل منصور بن أحمد الزهراني قائلاً بحُسن ظن منه حفظه اللهُ وسلّمه: حسناً ياأستاذ يوسف،الآن عرفتُ وتأكّدتُ من أين أتيتَ بهذه الأخلاق السّامية،والسَّجايا الحميدة! وكلامُ الأستاذ منصُور في حقيقة الأمر،ثناءٌ عظيم على سيّدي الوالد الذي غمر الناسَ بعيدهم وقريبهم،بطيبته وسماحة أخلاقه. ومازلتُ أردّدُ تلك المقولة،وأحكي ذلك الموقف بفَخر بالغ واعتزاز لاينتهي! ياوالدي الحَبيب؛ اليوم فقط،أدركتُ مع إخواني المَعاني البعيدة والعميقة،للكثير من أحاديثك ووصَاياك التي كنتَ تردّدها على مسامعنا ونحنُ أصغر سنا.حتى غدت لنا حكمة نتمثلها في دروب حياتنا.يقولُ لي أخي الأكبر سُلطان،وهو نعم الأخ والصّديق:هل تعلم يايوسف بأننا محظوظون بأبينا رحمه الله؟! قلتُ له مستزيداً:كيف ذلك ياأباحاتم؟ فأجابني: لقد بذلَ والدُنا غفر اللهُ له،حقيقةً لاتشبيها،حياتَه كلها من أجلنا،وحمل همّ صلاحنا ونجاحنا صغاراً وكبارا. بل إنني،والحديثُ لأخي سلطان،قابلتُ أناساً كثيرين،يدعون له بالرحمة ويشدّون على يدي قائلين: سيروا على دربه،سيروا على دربه! قلتُ لأخي سلطان: حديثُك هذا عن أبي،غفر اللهُ له وأعلى درجته في عليّين؛يذكّرني بقول الشاعر: وكانت في حياتِكَ لي عِظاتٌ وأنتَ اليومَ أوعظُ منك حيّا! رحم اللهُ أبي رحمةً واسعة،وجميع أموات المُسلمين. @yba13 رابط الخبر بصحيفة الوئام: إلى والدي رحمهُ الله