نهرُ النيل، سليل الفراديس وشريان الحياة لعشرات الملايين من الناس، يعد من أطول الأنهار في العالم، يجري ماؤه بالحياة، مانحا حوالي 200 مليون متر مكعب من المياه العذبة والأراضي الخصبة والضفاف الجميلة في رحلته الطويلة البالغة أكثر من 1800 كيلو متر مربع من المنبعين الرئيسين بحيرة "تانا" في إثيوبيا وبحيرة "فكتوريا" في أوغندا، ضلعي النهر، إضافة إلى بحيرات أخرى. وتساهم ست دول أخرى في مد حوض النيل بالمياه باعتبارها دول منبع ومشاطئة. وتعتمد كل شعوب المنطقة في حياتها على جريانه خاصة دولتي المعبر والمصب مصر والسودان. هذه الصورة الجميلة لمشهد النيل، ولكن تكمن خلف هذا الجمال صراعات وهواجس تنغص استقرار مصر ورفاهية السودان. وبدأ الصراع حول مياه النيل فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر بين الدول الأوروبية، واستمر الصراع بينها خلال النصف الأول من القرن العشرين. وبعد استقلال دول حوض النيل ظلت المياه مصدرا من مصادر الصراع الإقليمي حتى يومنا هذا، ودخلت إسرائيل على خط الصراع حول مياه النيل منذ عام 1925، وحاولت إغراء مصر لمدها بالمياه لإحياء صحراء النقب. وعادت مرة أخرى بقوة خاصة بعد أن استقل جنوب السودان الحليف الأقرب لإسرائيل التي سارعت بالاعتراف به ومد يد العون له ودعمه ماديا ومعنويا، ويبدو أن وراء الأكمة ما وراءها. بركة متحركة فبعد أيام قليلة من التوقيع على اتفاقية دول حوض النيل، والتي غابت عنها مصر والسودان، أتى الإعلان الإثيوبي عن إنشاء سد "بوردر" أو الألفية، كالحجر الذي يحرك البركة التي لم تسكن أصلا. ويقع سد الألفية الذي تنوي إثيوبيا بناءه على النيل الأزرق على بعد حوالي 40 كيلومترا من الحدود مع السودان. والغرض من السد هو توليد حوالي 5250 ميجاواط من الكهرباء، ويخلق السد بحيرة تبلغ سعتها 62 مليار متر مكعب من المياه وهي ضعف سعة بحيرة تانا، وحوالي نصف سعة بحيرة ناصر. وإذا قُدّر لهذا السد أن يتم فسيكون أكبر سدٍّ في أفريقيا والعاشر في العالم. وتزايدت الريبة لدى السودان ومصر بإعلان إثيوبيا قيامها بتنفيذ المشروع الذي تبلغ تكلفته مليارات الدولارات بجهود ذاتية، وبدون أي معونات خارجية مما يلقي بظلال من الشك حول الأيادي الخفية التي تسعى لزعزعة استقرار المنطقة، وقد يكون هذا هو التهديد الأكبر لاقتصاد الدولتين اللتين لم تستقرا بعد التغيرات الداخلية الكبيرة التي حدثت لهما. فمصر وبعد ثورة 25 يناير لم تخرج من نفق الخلافات الداخلية التي صاحبت رحيل النظام السابق، ولا يتوقع أن تستقر الأوضاع في القريب نظرا لتشعب الصراعات ولعبة الكراسي التي لا يكاد يخلو منها مرفق في الدولة. والسودان انشغل بحروب داخلية اعقبت انفصال الجنوب، الذي أصبح هو الآخر يشكل الهاجس الأكبر لاستقراره، بعد أن احتضن المعارضة الشمالية والتداعيات التي صاحبت ذلك من تصعيد للخلافات بين دولتي السودان والتي وصلت إلى حافة الحرب. إثيوبيا تتحرك منفردة وتعتبر إثيوبيا أهم دول المنبع بالنسبة لمصر، نظرا لحجم الإيراد المائي الوارد منها في إطار الحوض الشرقي لنهر النيل، ومع ذلك فلا ترتبط إثيوبيا مع مصر بأي اتفاق تنظيمي باستثناء اتفاقية عام 1902 م بين كل من بريطانيا (المسؤولة عن مصر والسودان)، وإيطاليا (المسؤولة عن الحبشة)، في ذلك الوقت، وهي اتفاقية تقضي بعدم قيام الحبشة (إثيوبيا) بأي أعمال على بحيرة تانا أو النيل الأزرق أو نهر السودان، تؤثر على حصة مصر والسودان. ووقَعت مصر مع إثيوبيا عام 1993، إطارا للتعاون يتناول قضية استخدام مياه نهر النيل من خلال الخبراء، على أساس اتفاق للمجاري المائية الدولية، مؤسس على الاستغلال الأمثل والمنصف وعدم الضرر والتعاون بين دول النهر، إلا أن قيام إثيوبيا بشكل منفرد بإنشاءات وسدود على مجرى النيل، اعتبرته دولتا المصب والممر مصر والسودان محاولةً للنيل من حقوقهما وحصتهما المائية. أياد إسرائيلية ويرى أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم الدكتور إبراهيم الكرسني أن هنالك أيادي إسرائيلية تتحرك من أجل إشعال الصراع حول مياه النيل، خاصة وأن أطماع إسرائيل في الحصول على حصة من مياه النيل قديمة قدم الاحتلال نفسه. وقد حاول اليهود إقناع بريطانيا بالاستفادة من مياه النيل بمدها إلى سيناء ليتمكنوا من توطين شعبهم فيها، ومنذ ذلك الوقت وإسرائيل تعمل بكل جهدها للحصول على حصة من مياه النيل، وتستخدم في ذلك نفوذها في القرن الأفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى، وهو ما يفسر قيام المسؤولين الإسرائيليين بزيارات متكررة لمنطقة القرن الأفريقي، منها زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي المتطرف أفيجدور ليبرمان أواخر عام 2009، والتي شملت ثلاث دول من حوض النيل هي إثيوبيا وكينيا وأوغندا. ويضيف الكرسني "بعد انفصال جنوب السودان أحكمت إسرائيل قبضتها على منابع مياه النيل، حيث تم الإعلان عن أن إسرائيل ستقوم بتمويل بناء عدد من السدود في دول الحوض، ويشمل ذلك بناء أربعة سدود في إثيوبيا، بالإضافة إلى سد تيكيزي الضخم الذي استكمل تشييده مؤخرا". قصور مصري الخبير السياسي دكتور مختار الأصم، انتقد معالجة الحكومة المصرية للأزمة، بالرغم من أن مصر كثفت جهودها السياسية خلال السنوات الأخيرة لاحتواء أزمة مياه النيل، خاصة بعد توقيع 4 من دول المنبع على الاتفاقية الإطارية لإعادة تقسيم حصص المياه في أوغندا، دون مصر والسودان، حيث أجرت مصر عددا من الاتصالات للدفع باتجاه استئناف المفاوضات مع دول الحوض. وقال الأصم "إن إهمال مصر في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، لدور السودان في المفاوضات خاصة مع إثيوبيا التي تربطها علاقات جيدة مع السودان قد أدى إلى فشل المفاوضات ونتج عنه مزيد من التجاهل للطرف المصري وقيام هذه الدول بتوقيع اتفاقية إطارية جديدة، وأخيرا الإعلان الإثيوبي عن تدشين سد جديد دون النظر للاعتراضات أو التحفظات المصرية، لتدخل السياسة الخارجية المصرية في أزمة، كانت في غنى عنها، ولكنها أزمة شديدة الخطورة، نظرا لارتباطها بأهم عنصر من عناصر النهضة والتنمية، بل والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر، وهو عنصر المياه". السودان غير معني أما بالنسبة للسودان، فعلى الرغم من وقوفه إلى جانب مصر في اعتراضاتها، يرى كثير من المراقبين أن الأمر لا يعنيه كثيرا. وفي هذا الإطار يقول المحلل السياسي الدكتور عبدالوهاب الأفندي، إن مياه النيل ستعبر السودان في كل الأحوال "وإن مياهه ستأتيه رضي من رضي وأبى من أبى، وإن الصراع ينحصر بين إثيوبيا ومصر ولا تواجه بقية دول الحوض أي مشاكل في المياه كونها دولا استوائية كثيرة الأمطار". وأضاف الأفندي أن السودان تجري على أرضه معظم فروع النيل لمئات الأميال، ورغم ذلك يعتمد في معظم زراعته على مياه الأمطار". وفي سياق متصل يقول مدير جامعة أفريقيا العالمية الدكتور حسن مكي، إن السودان يقف على أرضية ثابتة بعكس مصر. واعتبر أن السودان دولة منبع أيضا لكثرة الخيرات والأفرع التي تغذي النيل، فموارد المياه لديه عديدة، ولا يعتمد بشكل أساسي على مياه النيل كما هو الحال في مصر، الأمر الذي جعل الموقف السوداني الرسمي والشعبي هادئا، وهو ما أدى في المقابل إلى إثارة مخاوف البعض في الجانب المصري. احتمالات المواجهة لم تراوح توقعات كثير من المراقبين احتمالية المواجهة بين مصر ودول حوض النيل الأخرى، واعتبر وزير الخارجية الأوغندي، أوكيلو أوريم هنري، أن مصر بدأت بدق طبول الحرب على دول المنبع من خلال تصريحات لاثنين من كبار مسؤوليها لم يستبعدا أن تفعل مصر أي شيء، بما في ذلك شن حرب للحفاظ على ما يطلق عليه حقوقها التاريخية في حصتها من مياه النيل، وقال هنري، إنه على الرغم من أن مصر التي تعتبر الدولة الأكثر تضررا لم تعلن صراحة أنها سوف تستخدم السلاح للدفاع عن حقوقها، إلا إن التصريحات الصارمة من وزراء الحكومة لا تستبعد إمكانية نشوب حرب. وأضاف أن ما زاد من حدة هذه التكهنات حث بعض المشرعين المصريين، الحكومة على اتخاذ إجراءات أقوى ضد دول حوض النيل الأخرى، وهو "تهديد مبطن للحرب" على حد وصفه مشيرا إلى أن دول حوض النيل الأخرى ومن بينها أوغندا شعرت بالقلق من هذا التهديد. ويبدو أن دول الحوض أخذت التهديدات على محمل من الجد، وزادت من إنفاقها على التسلح تحسبا لمواجهة عسكرية مع مصر، وقد ربط بعض المحللين بين الخلاف حول مياه النيل وزيادة الإنفاق العسكري من قبل بعض الدول في منطقة الشرق الأفريقي تحسبا لاندلاع حرب. وأوضحت دراسة أجراها معهد أبحاث السلام السويدي الدولي، أن الإنفاق الكيني على شراء السلاح ارتفع من 222 مليون دولار في عام 1999 إلى 260 مليون دولار في عام 2008، لافتة إلى شراء كينيا مؤخرا ناقلات مدرعة لنقل الجنود وطائرات من طراز y-12 من الصين. أما أوغندا فقد ارتفع إنفاقها على شراء الأسلحة بحسب الدراسة، من 173 مليون دولار إلى 237 مليون دولار بين عامي 2003 و2008. وقد دافع المتحدث باسم الجيش، كولونيل فيليكس كولايجي عن قرار الجيش بشراء 6 طائرات مقاتلة من روسيا ب654 مليار شلن أوغندي قائلا إن "أوغندا بحاجة إلى طائرات لأنها تواجه العديد من التهديدات ومن بينها الصراع الذي لم يحسم حول مياه النيل". يرتبط أمن مصر بالعلاقة مع إثيوبيا والسودان وكينيا والبلدان الأفريقية الأخرى. ومشكلة مصر الحقيقية هي الحاجة إلى كميات إضافية من المياه، وسيزداد الوضع المائي المصري صعوبة في المستقبل خاصة وأن التوقعات تشير إلى بلوغ عدد سكانها 160 مليون نسمة في عام 2050، ولن تستطيع مصر الحصول على الكميات الإضافية من المياه بدون الوصول إلى اتفاق مع دول المنبع والتي تحتاج أيضا المياه ولم تستخدم مياه النيل حتى الآن. فهل تسعى مصر بجدية أكبر في الوصول إلى حلول سلمية عبر المفاوضات تضمن بها زيادة حصتها من المياه، أم تتجه الأحداث إلى مواجهات حقيقية خاصة وأن إسرائيل دخلت على خط الصراع حول مياه النيل وبقوة هذه المرة.