قبل أن أدلف إلى الحديث عن الطريقة التي كان يفكر بها الأديب مصطفى صادق الرافعي، رحمه الله، عن الموت وحديثه عنه قبل رحيله عن الحياة الدنيا، أود أن أشير إلى أدهى الأشياء التي باتت مثار التساؤل: ما بال الموت لم يعد يحرك جوانب الخشية والاعتبار في الناس؟! موت الفجأة هذه الأيام ينهي حياة كثير من أقرب الناس وأبعدهم ممن شاركونا في حياتنا، لكن وللأسف الشديد لم نعد نتأثر إلا لساعات أو أيام قلائل جداً وسرعان ما نتناسى! مشهد العزاء لم يعد يجده القادم لتقديم العزاء مأتماً يشي بالحزن بقدر ما يظن أنه دخل مسرحاً للترفيه! من خلال المحاورات والنكات التي تنبعث مصاحبةً لبعض الضحكات الساخرة التي بلا شك يقف وراءها أبالسة الكيد وشياطين الإنس والجن! حتى موت بعضنا لم نعد نوليه الحق من الاعتبار والخشوع وديمومة التفكر في الآخرة والمصير! دعونا نلمح في ثنايا السطور كيف استطاع الرافعي أن يمزج بأدبيته وخشيته واصفاً حتمية الموت: ".. من يهرب من شيء تركه وراءه إلا القبر، فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه، هو أبداً ينتظر غير متململ، وأنت أبداً متقدم إليه غير متراجع، وليس في السماء عنوان لما لا يتغير إلا اسم الله، وليس في الأرض عنوان لما لا يتغير إلا اسم القبر. وأينما يذهب الإنسان تلقته أسئلة كثيرة: ما اسمك؟ وما صناعتك؟ كم عمرك؟ كيف حالك؟ ماذا تملك؟ ما دينك؟ ما رأيك؟.. ثم يَبطلُ هذا كله عند القبر، كما تبطل اللغات البشرية كلها في الفم الأخرس، وهناك يتحرك اللسان الأزلي بسؤال واحد للإنسان.. ما أعمالك؟ إنّ تنازع البقاء مذهب فلسفي بقري لا إنساني! سألت القبر: أين المال والمتاع؟ وأين الجمال والسحر؟ وأين الصحة والقوة؟ وأين المرض والضعف؟ وأين القدرة والجبروت؟ وأين الخنوع والذلة؟.. قال: كل هذه الصور فكرية لا تجيء إلى هنا، لأنها لا تؤخذ من هنا! فلو أنهم أخذوا هدوء القبر لدنياهم وسلامه لنزاعهم وسكونه للعبهم لسخروا الموت فيما سخروه من نواميس الكون! إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة وكان يجب أن تدفن وتطهر أنفسهم منها، فمعنى ما في الإنسانية من شر هو معنى ما في الناس من تعفن الطباع والأخلاق.." حتى يقول: "ولعل الموت كما يجرد الحي من روحه ينتزع من أهله شهوات أرواحهم فيميتهم مدةً من الزمن في القلب وفي العين وفي الفكر، وبذلك يرد جميع المحزونين إلى المساواة، فأهل كل ميت وإن علا كأهل كل ميت وإن نزل. وتموت بالموت الفروق الإنسانية في المال والجاه والقوة والجمال، حتى لا يبقى إلا الدمعة واللوعة والحسرة والزفرة.. وهذه هي أملاك الإنسانية المسكينة"!