إذا شئنا المقارنة بين ما يقدمه الروائي الألماني توماس مان في "الجبل السحري"، وبين ما قدمه ألبرت أينشتاين في نظريتيه "النسبية الخاصة"، و"النسبية العامة"، سنجد أكثر من مدخل لذلك، عدا عن أن كلا العلمين كانا ألمانيين، فالجبل السحري هي روايات عديدة في رواية، وليس على طريقة "ألف ليلة وليلة"، كما أن الرواية هي مجمع علوم وفنون وحوارات مسرحية، ولكنها بالضرورة لا تمثل موسوعة أو دائرة معارف، وهي إلى ذلك إحدى أضخم الروايات في تاريخ الرواية، وأزعم أنها الأكثر صعوبة للقارئ غير الصبور، إضافة إلى أنها تحضر في استشهادات كثيرة واقتباسات لجهة الصفة الأخيرة. أما النظرية النسبية، بنسختيها، فهي صفوة تاريخ الفيزياء في زمن وضع النظرية، حتى إن عدد العلماء الذين استوعبوها في بادئ الأمر لم يتجاوز أربعين عالماً على مستوى العالم، وهذا قبل أن تطال النظرية كثير من الانتقادات بعد أكثر من أربعين عاماً على شيوعها، وليس قبل تقدم العلوم الفضائية. مردُّ ذلك إلى أن النظرية نفسها بقيت "نظريةً"، بحيث يستحيل اختبار الافتراضات النظرية، من مثل السفر بسرعة الضوء. وجه المقارنة الأساسي بين مفردات الجبل السحري والنظرية النسبية هو الجمع بين ما أتى به الأولون في المجالين، الأدب والفيزياء، وتتضح المقارنة في ناحية "استحالة" تصور مثل هذا العقل الموسوعي، فالبحث الذي يقدمه توماس مان على ألسنة أبطال الرواية يغطي علم النبات، وعلم الحيوان، وعلم الأمراض، وسنن الحرب والسياسة، والموسيقى، إضافة إلى العلوم النفسية، ومفردات أخرى كثيرة تجري كلها في مصح لعلاج السل في أعالي الجبال السويسرية، حيث الثلج السرمدي. أما النظرية النسبية فقد اختصرت وكثفت علم الفيزياء، جامعة ما أتى به البابليون، مروراً بالمصريين، والعرب، والفرس، وغاليليو، ونيوتن، وكوبرنيكوس، وصولاً إلى بدايات وأواسط القرن العشرين، فاتحاً بذلك باباً واسعاً لتقدم علوم الفضاء، والتعدين، ومؤخراً إلى علم النانو الذي لن يفاجئنا بصنع مصعد فضائي يصل إلى القمر، أو الكواكب الأخرى التي نعرفها، أو لا نعرفها. الزمان بين الحربين العالميتين، حين كانت الأولى تدعى الحرب العظمى، ولم تكن الحرب الثانية متوقعة، تبدأ الرواية بوصول هانز كاستورب لزيارة ابن خالته وصديقه يواكيم زيمسين، والمدة المفترضة للزيارة ثلاثة أسابيع، لكن الأحداث تقول إن الزائر يكتشف بعد ارتفاع مطرد في حرارته أن لديه بدايات لمرض السل، أو "بقعة ندية"، أو تدرن رئوي كما نعرفه في العربية. كاستورب مهندس سفن، وابن خالته ضابط في الجيش الألماني يعشق مهنته. لقد تحولت زيارة الثلاثة أسابيع إلى أشهر وسنوات، وبينما بقي الزائر مقيماً في المصح يصر يواكيم على العودة إلى الجيش، بعدما ظن، خلافاً لرأي الطبيب، أنه بخير، لكن تلك العودة لا تستمر إلا لأشهر معدودات. ومرة أخرى يبدو أن نسبية الزمن هي الفحوى الأساسية للرواية ضمن غابة من تفاصيل الحياة والمكان والفن والفلسفة، ليلتقي مان وأينشتاين على الأرضية نفسها كما ذكرنا مسبقاً. يقول توماس مان في مقدمة الرواية "الراوي لن يفرغ من قصة هانزنا كلها في دقيقة واحدة. إن أيام الأسبوع السبعة لن تكون كافية، لا، ولا حتى سبعة أشهر. الأفضل ألا نكشف أوراقنا في وقت مبكر جداً فنوضح كم هو الزمن القاتل الذي يجب أن يمر فوق رأسه بينما هو جالس دائراً في قوقعته..". نذكر أن توماس مان مُنح عام 1919 درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة من جامعة بون، وحصل سنة 1929 على جازة نوبل للآداب. كما مُنح سنة 1935 مع ألبرت أينشتاين درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة هارفرد. وقد تأثر "مان" بشوبنهاور ونيتشه، فتبنى فلسفة متشائمة ترى أن الحياة رهيبة، وأن العالم سيئ، وتغنى بالموت وبسحر العدم. كما أحب مان الموسيقي "فاغنر"، حتى أصبحت الموسيقى حاضرة في معظم رواياته. ومن رواياته وقصصه الأخرى نذكر "الموت في البندقية"، و"الدكتور فاوستوس"، و"لوته في فايمار"، و"يوسف وإخوته"، و"طونيو كروجر"، و"البطة السوداء"، و"فيلكس كرول"، و"ماريو والساحر"، و"آل برودنبروك". وقد كتب الناقد الأدبي مارسيل رايش رانيكي عن الجبل السحري "إنها قمة لم يصل إليها أحد من قبل في تاريخ الأدب والفكر والثقافة بألمانيا.. فقد نجح مان فعلاً في أن يجعل هذه الحقيقة تذيع في العالم لتصل إلى بلده من جديد". ولا بأس هنا من ذكر حادثة طريفة ارتبطت بالرواية، ففي قضية طلاق بين زوجين ألمانيين، تتحدث الزوجة شارحة أسباب طلبها للطلاق، ومن بين مبرراتها، تقول للقاضي "تخيل أنه حاول إجباري على قراءة الجبل السحري!". الرواية صدرت في ترجمتين جديدتين عن دار الجمل (بغداد بيروت)، بترجمة العراقي علي عبد الأمير صالح عن الإنجليزية، وأخرى عن دار ورد الدمشقية بترجمة السوري عدنان حبال عن الألمانية.