عبق الماضي وذكرياته الجميلة التي تمتزج بالحنين والشوق إلى ذلك الزمن، لا تزال عالقة في أرجاء أقدم مقهى شعبي في محافظة القطيف، فمنذ أكثر من 45 عاماً عاشها صاحب المقهى في موقعه الحالي ولا يزال، يستجلب انتباه وتمعّن الزائرين في ظل انتشار الرائحة المميزة للقهوة العربية والشاي المخدَّر وهو الشاي الذي يترك بعد الغليان ليتكثف. إنها قهوة "الغراب" التي قال عنها الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- إن: "قهوة الغراب قهوة شهيرة في القطيف، وهي ملتقى الأدباء والتجّار والأعيان وشيوخ القبائل، وهي عبارة عن دهليز مستطيل المدخل كان متصلاً بسوق الخميس". عند دخول بوابة المقهى القديمة، يتواجد رجل مسنّ لا تغيب عنه ابتسامته الساحرة عند ترحيبه بالزائرين، وتقديمه فنجان قهوة ضيافة لهم، إنه الحاج "أبو علي" حسن الغراب (75 عاماً)، صاحب مقهى "الغراب"، ذلك المقهى الذي يعتبر آخر ما تبقى من التراث التاريخي بقالبه البنائي وشكله التقليدي، بعد أن تم نقله من موقعه الأصلي الأول في "الجبلة" أحد أشهر وأهم الأسواق المحلية في مدينة القطيف قبل أكثر من 100 عام. وكعادته يومياً، يمتلئ المقهى برواده الذين اعتادوا الحضور في كل يوم، وهو ما يسعد العم "أبو علي" الذي قال ل"الوطن"، إن: "رواد المقهى في الوقت الحاضر هم من كبار السن والمتقاعدين الذين يأتون بغرض الاستراحة والالتقاء بالأصدقاء وشرب الشاي والقهوة، والحديث عن الذكريات القديمة، وأنا بدوري أقدم لهم الشاي والقهوة والماء والمرطبات، وسابقاً كنت أقدم "الأرجيلة" أو ما يعرف ب "القدو"، مشيراً إلى أن يوم الخميس من كل أسبوع يشهد ازدحاماً وكثافة في الحضور، وخصوصاً في الفترة الصباحية. ويضيف الغراب إن "المقهى سابقاً كان يفتح أبوابه بعد صلاة الفجر أثناء عمل والدي به، بينما كنت أتجول بالقهوة النحاسية على المحلات في السوق الشعبي، وكان المقهى يشهد تجمع كبار تجار اللؤلؤ ورجال القبائل الذين يقضون وقتهم فيه بعد انتهاء عملهم". ويتابع قائلاً "إننا نتحسر على الماضي عندما نتذكره ونتبادل الذكريات الجميلة في الزمن الجميل الذي تعلمت فيه الصنعة من والدي، وقد كنت -آنذاك- في العاشرة من عمري، وكانت قيمة "استكانة" الشاي في ذلك الوقت لا تتجاوز خمسة "قروش" فقط. الحاج أبو علي يصف المقهى قديماً، ويقول، إن: المقهى كان يستقطب جميع شرائح المجتمع، فتجد التجّار والملاّك وذوي الثروة مقابل الفلاحين والفقراء والبحّارة، وكنت أجهز الشاي في الماضي باستخدام التنور العربي بعد أن نشعل فيه النار بواسطة الألواح والأخشاب قبل أن تتغير عجلة الزمن، وكان المقهى عبارة عن سوق صغيرة يتبادل من خلاله التجّار السبح والخواتم والأحجار الكريمة إلى جانب عمليات بيع وشراء سلع أخرى". ويقول الخطاط عبدالله الغانم -أحد رواد المقهى الحريصين على الحضور يومياً "أحضر يومياً إلى المقهى منذ 45 عاماً، ولا أزال، حيث أستمتع بشرب الشاي "المخدَّر" الذي يعده الحاج أبو علي، وكذلك هو الحال بالنسبة للكثيرين من رواد هذا المقهى".