بعد فترات متفاوتة من الاحتجاز القسري، وبموجب تعهدات خطية ب"التوبة"، خلصت إليها جلسات حوار فكري أجريت خلف جدران السجون، أطلقت السلطات اليمنية سراح أعداد محدودة من المعتقلين، على خلفية اتهامات بالانتماء إلى تنظيم "القاعدة"، من الذين لم يثبت تورطهم في قضايا ذات طابع جنائي، ليواجه هؤلاء عقب تخطيهم عتبة المعتقلات خيارات صعبة، فرضتها استحقاقات إفراج مشروط عنهم. ركن قصي يقضي "أبو العز" أياما وأسابيع متشابهة، بالجلوس نهارا في ركن منزو بالقاعة الكبرى، الملحقة ب"دار الكتب" في العاصمة صنعاء، ليطالع بعض الكتب الدينية، ومن ثم العودة مساء إلى منزل جده المتهالك، في حي "الأبهر" بالمدينة القديمة، ليواجه هواجسه الكامنة، في احتمالات التعرض لعملية اعتقال، كطريقة استدعاء وتحضير صاخبة، اعتاد الخضوع لها، منذ خروجه من المعتقل، واستقراره في منزل جده، بعد وفاة الأخير، ليلحق بوالديه. تعهد للخلاص يقول أبو العز، البالغ من العمر 35 عاما، في حديث مع "الوطن": إنه تم "إطلاق سراحي من السجن، بموجب تعهد خطي أعقب جلسات متعددة، مع بعض العلماء، فيما عرف بجلسات الحوار الفكري، تعهدت خلالها بالتقيد بحسن السيرة والسلوك، ونبذ العنف والتطرف والغلو، وهذه المصطلحات ترددت كثيرا خلال جلسات الحوار، إلى جانب التقيد بتسجيل الحضور بشكل دوري في قسم الشرطة، الملحق بمنطقة سكني"، مضيفا: "بالنسبة لي وللعديد ممن أطلق بموجب نتائج جلسات الحوار الفكري، وقعت التعهد كوسيلة للخلاص من كآبة السجن وامتهانه، على الرغم من أنني لم أرتكب في السابق ما يستوجب مني التوبة، والتعهد بحسن السيرة والسلوك". مبينا أنه سافر إلى العراق بهدف "الجهاد في سبيل الله، كفرض واجب يفرضه وجود دولة مسلمة تحت احتلال كافر، وقد تم اعتقالي عقب عودتي مع بعض رفاقي، وفوجئت بأنني متهم بالانتماء لخلية إرهابية بصنعاء، سميت خلية الزرقاوي، الذي لم أعرفه شخصيا، أو أقابله طوال فترة تواجدي للجهاد في العراق". مآخذ منهجية بموجب الحصول على إفراج مشروط، أخضعت السلطات اليمنية المفرج عنهم، ممن شملتهم جلسات الحوار الفكري، التي توقفت منذ سنوات، لاعتبارات تتعلق بتصاعد الضغوط الأميركية والغربية، إزاء مبدأ الحوار مع المعتقلين، على خلفية قضايا ذات صلة بالإرهاب من جهة، وتواضع النتائج التي خلصت إليها فكرة الحوار مع "المتطرفين"، في الحيلولة دون استئناف بعض من شملتهم تلك الجلسات وأفرج عنهم بموجب تعهدات خطية بالتوبة، لأنشطتهم التنظيمية، سواء عبر الانخراط مجددا في خلايا تابعة لتنظيم "القاعدة"، أو جماعات جهادية أخرى . يقول أحمد عبدالله مجلي، المكنى ب"أبي العز": إن فكرة "الحوار كوسيلة لمواجهة ما يسمى التطرف الديني لا غبار عليها، بل هي في اعتقادي الوسيلة الأفضل، والأكثر تأثيرا من استخدام العنف، لأن هناك حقيقة من الشباب من انحرف بتوجهه صوب اتجاهات متشددة أو متطرفة، نتيجة التأثر بتعبئة دينية وعقائدية غير مستقيمة الأهداف والغايات، ومثل هؤلاء يجب أن يساعد الحوار معهم، من قبل علماء دين مستقلين وليسوا تابعين للحكومة، على مراجعة أنفسهم، وتقييم توجهاتهم"، إلا أنه اعتبر أن "الحوار الفكري حين يتم خلف جدران السجون لا تكون لنتائجه أو مضمونه قيمة، لأن أي حوار لا بد من أن تتوافر فيه عناصر الندية بين المتحاورين. كما أن فرض رقابة أمنية لاحقة على المفرج عنهم، سواء ممن شملتهم جلسات الحوار، أو من صدرت بحقهم أحكام قضائية مخففة، وخرجوا من السجون بعد انتهاء فترة العقوبة، يجب أن تحكمه ضوابط قانونية، تحفظ للطرف الأضعف حقوقه الآدمية، بحيث لا يتم التعامل معه كمشبوه". ضغوط خارج السجن جمال ناصر القشة، المكنى ب"أبي شهاب"، شاب في الثلاثينات من العمر، اعتقل قبل 6 سنوات مع آخرين، في حملة دهم نفذتها السلطات اليمنية، توجت بالإعلان عن إحباط مخطط إرهابي، كانت خلية تابعة ل"القاعدة" بصدد تنفيذه، ويستهدف مصالح محلية وأجنبية في اليمن. وعلى الرغم من إقراره بانتمائه السابق لتنظيم "القاعدة"، إلا أنه نفى اشتراكه في أي هجوم نفذه التنظيم، سواء داخل اليمن أو خارجه، أو استمرار ارتباطه التنظيمي معه. أبوشهاب تحدث لنا عن تجربته قائلا "إن انخراطي في تنظيم القاعدة لم يستمر سوى أشهر بسيطة، وقد دفعني لهذا قناعتي بضرورة مناهضة الوجود الأجنبي في اليمن، وكافة بلاد المسلمين، لأنه وجود يقوم على الاستغلال ونهب الثروات، ونشر الفساد في أوساط المسلمين"، مضيفا "لقد تم اعتقالي لأنني كنت متواجدا في منزل مع بعض أصدقائي، وليس لجميعهم ارتباطات بالقاعدة، وتم الإفراج عني بموجب حكم قضائي مخفف، احتسبت بموجبه فترة الاحتجاز التي قضيتها في السجن منذ اليوم الأول لاعتقالي. وبالنسبة لي والعديد غيري، قطعت علاقتي بالقاعدة، لأنني لم أتقبل بعض الممارسات التي يقوم بها التنظيم، وخاصة تجنيد بعض صغار السن للقيام بعمليات انتحارية، مثل الاعتداء على مواقع ليست تابعة لأية جهة أجنبية، فهذا يتقاطع مع قناعاتي ومفهومي لمعنى الجهاد في سبيل الله". ويشير ناصر إلى طبيعة معاناته بعد خروجه من السجن، ساردا: "أمارس حياة يومية عادية. أعمل في تجارة العسل بأنواعه، ولم يبدر مني أي سلوك يستدعي التعامل معي كمشتبه به. هناك ضغوط أمنية يتعرض لها العديد من الذين قضوا فترات اعتقال في السجن على خلفية قضايا ذات صلة بما يسمى الإرهاب، وهذه الضغوط تسببت في عودة البعض إلى السجن من جديد". أسرة منكوبة عائلة المقاول محفوظ الصلوي، نكبت قبل أشهر بمصرع أحد أبنائها الذي لم يتجاوز العقد الثاني من العمر، إثر محاولته تنفيذ هجوم انتحاري بشريط ناسف، استهدف موكب السفير البريطاني السابق بصنعاء. مقربون من الأسرة المنكوبة أكدوا ل "الوطن"، أن منفذ الهجوم الانتحاري الفاشل ضد موكب السفير البريطاني السابق اعتقل لمدة عامين، قبيل أن يحصل على إفراج مشروط نظرا لصغر سنه، ليخضع لاحقا للمثول بشكل دوري أمام السلطات الأمنية التي لم تحرك ساكنا، رغم إبلاغ والده للسلطات بأنه يشتبه في سلوكيات نجله الراحل، وأنه قد يكون بصدد تنفيذ عملية إرهابية!. وأشارت ذات المصادر إلى أن الشاب "الضحية" تعرض ل"ضغوط مماثلة من قبل تنظيم القاعدة، دفعته إلى اختيار الهروب على طريقته، من الضغوط المزدوجة، عبر تفجير نفسه بشكل مروع، في أحد الشوارع الرئيسة بالعاصمة صنعاء". حملات أمنية وشنت السلطات اليمنية خلال الأعوام الممتدة بين 1994 و1999 حملة اعتقالات موسعة، شملت المئات من المشتبه بعلاقاتهم بمنظمات متطرفة، بالتزامن مع حملة مماثلة توجت بترحيل ما يزيد على 3000 شخص من جنسيات عربية وآسيوية، من العائدين من أفغانستان، الذين درج على تسميتهم ب"الأفغان العرب"، لاعتبارات تتعلق بمخاوف من انضواء لاحق لهؤلاء في جماعات جهادية من شأنها أن تمثل مستقبلا مشكلة أمنية. فيما شهدت السنوات الخمس الأخيرة تنفيذ السلطات اليمنية لحملات تعقب موسعة، وترحيل مماثل للعشرات من المقيمين العرب المشتبه بانتمائهم لتنظيم "القاعدة". ويقول الدكتور عبدالستار أحمد ثابت: إنه "منذ عام 1998، بدأت السلطات اليمنية تكتشف وجود حضور لتنظيم القاعدة في اليمن. فإلى ما قبل هذا التاريخ، لم يكن أصلا لمصطلح القاعدة أي وجود في البلاد، حيث تم اعتقال وترحيل أكثر من ثلاثة آلاف من المقيمين العرب، وتحديدا أولئك الذين قدموا إلى اليمن عقب انتهاء الحرب ضد الاحتلال السوفيتي السابق في أفغانستان، وكانوا معروفين لدى السلطات الأمنية اليمنية، ومعظم هؤلاء انخرطوا في العمل فيما كان يعرف بالمعاهد العلمية التي أنشأها الإخوان المسلمون في اليمن، أو حزب الإصلاح الإسلامي فيما بعد، كنوع من التعليم الديني الموازي". ويشير ثابت إلى طبيعة الإجراءات التي نفذتها السلطات خلال السنوات الأخيرة، ضد المشتبه بانتمائهم ل"القاعدة" من الأجانب. مبينا أن "الخمس السنوات الأخيرة شهدت ترحيل العشرات من المقيمين العرب لأسباب تتعلق بالاشتباه في أنشطتهم، وبعضهم كانوا فعليا مطلوبين لدول عربية، كمصر والسعودية والأردن، ومنهم من قضى في اليمن سنوات سابقة، واشتغل في مجال الخطابة الدينية، والإشراف على شؤون المساجد، ولم يبدر منهم أية تجاوزات مخلة تستدعي ترحيلهم أو اعتقالهم، إلا أن تصاعد خطر القاعدة في اليمن كان أحد أهم الأسباب التي دفعت السلطات الأمنية اليمنية إلى تنفيذ مثل هذه الحملات".