يرى الدكتور سلطان محمد النعيمي في كتابه «الفكر السياسي الإيراني»، الصادر عن دار مدارك، أن أسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الموروث الفكري الإيراني ظلت قائمة على تقديس الملك، بوصفه ظل الله على الأرض، وهو ما عُرف ب«الفيض الإلهي» الذي خص الله به الحاكم دون غيره. وبعد دخول الإسلام إيران، انتقل مفهوم الفيض الإلهي ليسبغ على أئمة أهل البيت. أما خلال حكم الدولة الصفوية وبعدها، فقد أصبح الفكر الشيعي محورا رئيسا في الفكر السياسي الإيراني، واستمر مع ظهور الدولة القاجارية، وانفتاح إيران على الغرب، وما تمخض عنه من ظهور أنظمة جديدة في إيران غير النظام الملكي، بدأت مع المطالبة بالحياة الدستورية أوائل القرن العشرين، وانتهت بالنظام الجمهوري الإسلامي الحالي.
يحاول الدكتور سلطان محمد النعيمي أن يجيب في كتابه «الفكر السياسي الإيراني جذوره، روافده، أثره» والصادر عن دار مدارك، عن أسئلة ملحة، تتعلق بطبيعة الفكر السياسي الإيراني ومحددات تكوينه، ودور الفكر السياسي الشيعي بشقيه الإخباري والعقلاني في تطور الفكر السياسي الإيراني بشكل عام، وكيف أثرت الرافد الفكرية الحديثة على هذا الفكر، وكيف انعكس ذلك على المستوى العملي، وكيف وصل التيار الديني بنظرية ولاية الفقيه إلى أعلى درجات السلطة وتشكيله الحكومة الإسلامية، وما هي النظريات البديلة التي طرحها كل من التيار الديني والليبرالي واليساري كل على حدة، بوصفها نظريات حكم بديلة لنظام الشاه بعد سقوطه. وكيف تمكن التيار الديني من سحب البساط من تحت أقدام التيارين الليبرالي واليساري وانفراده بالسلطة؟ وكيف شهد العقد الثاني للثورة الإسلامية الإيرانية ظهور رؤى سياسية جديدة داخل التيار الديني بديلة لنظرية ولاية الفقيه؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى ظهور تحولات داخل الاتجاهين التقليدي والتجديدي في التيار الديني الحاكم حول نظرية ولاية الفقيه والنظام السياسي في إيران؟ وما هي القوى السياسية الفاعلة في المشهد السياسي في إيران؟ وما هي حقيقة توصيفاتها؟ وما هي النظرة المستقبلية للنظام السياسي في إيران في ظل التجاذبات الداخلية والتحديات الإقليمية والدولية؟ تقديس الملك يلاحظ المتتبع للفكر السياسي الإيراني تأثره بمجموعة عوامل. فكان لتنوع الأنظمة السياسية التي تعاقبت على إيران قبل وبعد الإسلام وطبيعة الشخصية الإيرانية بما تحمله من إرث تاريخي وثقافي، إضافة إلى الموروث الديني في إيران، الأثر الواضح على طبيعة الفكر السياسي الإيراني. لقد ظلت أسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الموروث الفكري الإيراني قبل الإسلام قائمة على تقديس الملك، بوصفه ظل الله على الأرض، ومجسداً بدوره للسلطتين السياسية والدينية، وهو ما عُرف ب«الفيض الإلهي» الذي خص الله به الحاكم دون غيره. وبعد دخول الإسلام إيران، ونظراً لارتباط الشخصية الإيرانية بموروثيها التاريخي والثقافي، فقد انتقل مفهوم الفيض الإلهي ليسبغ على أئمة أهل البيت. وظل هذا الفكر مسيطراً وبخاصة في الدويلات التي اتخذت التشيع مذهباً دينياً وسياسياً لها. أما خلال حكم الدولة الصفوية وبعدها، فقد أصبح الفكر الشيعي محوراً رئيساً في الفكر السياسي الإيراني، على الرغم من تنوع روافده في فترة لاحقة تزامنت مع ظهور الدولة القاجارية وانفتاح إيران على الغرب، وما تمخض عنه من ظهور الفكر السياسي الحديث مثل الفكر الليبرالي واليساري داخل الفكر السياسي الإيراني، وأدى إلى تنوع روافده وانعكاس هذا التنوع في ظهور أنظمة جديدة في إيران غير النظام الملكي، بدأت مع المطالبة بالحياة الدستورية البرلمانية في أوائل القرن العشرين وانتهت بالنظام الجمهوري الإسلامي الحالي في إيران. وعلى الرغم من تحول إيران إلى نظام جمهوري إسلامي بعد ثورة عام 1979، إلا أن هذا النظام يظل يكتنفه الكثير من الغموض؛ نظراً لما يختزله من جوانب مغايرة للأنظمة المتعارف عليها.
بعد الغيبة الكبرى حتى الدولة الصفوية تعد الإمامية الاثني عشرية من أهم وأكبر الفرق الشيعية التي تؤمن بوجود الإمام الثاني عشر المعروف بالمهدي المنتظر. وظل فكر هذه الفرقة مقترناً بنظرية الإمامية التي تحصر حق الخلافة والسلطة الشرعية في أهل بيت الرسول، وترفض الشورى طريقاً لانتخاب الإمام؛ وذلك بسبب اشتراط العصمة والتعيين له من قبل الله تعالى. ونظراً لغيبة الإمام، ظهرت السلبية والانعزال السياسي لدى فقهاء الشيعة حتى ظهور نظرية «النيابة العامة» للفقهاء عن الإمام المنتظر، وتطورها لاحقاً إلى «ولاية الفقيه»، الأمر الذي أدى إلى إثراء الفكر السياسي الإيراني، ومن ثَم الدمج بين الفكر السياسي الإيراني والفكر الشيعي، بحيث تأصل الفكر الشيعي في الفكر السياسي الإيراني. ولعل أهم ما يميز الشيعة الاثني عشرية في تلك الفترة من ناحية الفكر السياسي هو الاعتقاد بالإمامة والسلطة المعينة من قبل الله وارتكازها على الآتي: انفراد سيدنا علي بن أبي طالب وأبنائه وأحفاده بهذه السلطة. تعيين الأئمة عن طريق الوصية. الاعتقاد بعصمة الأئمة. السلطة الشرعية هي سلطة الأئمة الاثني عشر، وكل سلطة تأتي خلاف ذلك تعد سلطة جائرة ومغتصبة لحق الأئمة. أما في مرحلة ما بعد الغيبة الكبرى فقد أصبحت مسألة تحقيق «السلطة الدينية» أمراً غير ممكن بانقطاع الأئمة وغيابهم، الأمر الذي أفضى إلى جدلية ذات أبعاد متنوعة، وقد تمخض عن هذه الجدلية ظهور اتجاهين داخل الفكر السياسي الشيعي الاثني عشري، وهما: الاتجاه التقليدي الإخباري، الذي انطلق من مبدأ ثابت؛ هو أن انصراف السلطة إلى غير أصحابها الشرعيين (أئمة أهل البيت) ما هو إلا تجريد لهذه السلطة من أي مسوغ شرعي إلهي لها، وبالتالي فإن التعامل مع هذه السلطة يعد حراماً بوصفها مغتصبة لحق الأئمة. الاتجاه الأصولي التجديدي، الذي سعى بواسطة الاجتهاد والتأويل إلى معالجة الإشكاليات والمتغيرات في ضوء غيبة الإمام وطرح الحلول المناسبة لها. وقد استندوا إلى أحاديث الرسول والأئمة في ضرورة وجود نظام يحفظ للرعية حقوقها، ومنها قول الإمام علي رضي الله عنه «لابد للناس من أمير بر أو فاجر». ولقد ذهبت المدرسة العقلانية في تعاملها مع السلطة في عصر الغيبة إلى تقسيم ال«سلطان» إلى «سلطان جائر» و«سلطان عادل» ويمكن للسلطان أن يتحلى بصفة العدل وفق الشروط التالية: أن يكون مرجعه الإمام. أن يكون مجتهداً عادلاً. ولذا اعتبر الشيعة أي سلطة غير سلطة المهدي المنتظر والمجتهدين العدول سلطة تقع تحت صفة السلطة الجائرة. منذ بداية الدولة القاجارية حتى مقدمات ثورة 1979 شهدت هذه المرحلة تطوراً فكرياً حول نظرية ولاية الفقيه والتوسع في صلاحيات هذه الولاية، كما شهدت تنامي قوة المؤسسة الدينية، بسبب: افتقار الدولة القاجارية إلى الشرعية - من المنظور الشيعي - مقارنة بملوك الدولة الصفوية الذين ادعوا انتسابهم لأئمة أهل البيت. تودد ملوك القاجار إلى فقهاء الشيعة بوصفهم المؤسسة الدينية القادرة على إضفاء الشرعية على سلطتهم. المتغيرات السياسية الدولية والهجمات الروسية على إيران؛ الأمر الذي دفع بالدولة القاجارية للتوسل إلى الفقهاء لدفع الإيرانيين للوقوف في وجه تلك الهجمات. وهذه المرحلة وما شهدته من تطور في الفكر السياسي الإيراني بشكل عام، شهدت إثارة إشكاليات مثل: أسس شرعية السلطة، وصلاحيات الولي الفقيه، وأنواع السلاطين، وغيرها من الإشكالات، بالإضافة إلى تناول مفاهيم جديدة مثل مفهوم الشعب، والرعية، والاستبداد، والاستعمار، والعدالة. وسار الفقهاء على نهج سابقيهم في التأكيد على أن السلطة الإلهية هي المصدر الشرعي للحكم، ولما كان الإمام الغائب هو المخول من قبل الله تعالى بهذه السلطة فقد أصبحت الدولة القاجارية من منظور الفكر الشيعي دولة غير شرعية. وانطلاقاً من ذلك اعتبر «الميرزا القمي» سلطة القاجاريين حكومة جائرة، ودعا إلى ضرورة تولي الفقهاء المجتهدين الأمور الشرعية مثل الخراج والزكاة وغيرها وقسم الحكومات إلى: حكومة الإمام المعصوم المنبثقة من السلطة الإلهية. الحكومة الجائرة والتي تنقسم إلى حكومة جائرة مناهضة للمذهب الشيعي وأخرى جائرة مؤيدة له، وبما أن الحاجة تدعو إلى ضرورة وجود سلطة فقد أيد الميرزا القمي وجود سلطة جائرة تخدم مصالح الشعب. من هذا المنطلق استمرت نظرية التفويض من قبل نائب الإمام للسلطان في العصر القاجاري، وعرفت بنظرية «السلطة المفوضة»، وتركزت أبعاد هذه النظرية في الفكر السياسي الشيعي في أن شرعية السلطة ناشئة من تفويض الولي الفقيه لها لكي تخرج من حيز السلطة الجائرة إلى سلطة شرعية. كان لانفتاح إيران على الغرب طيلة عهد الدولة القاجارية، والتوسع في البعثات الدراسية إلى الدول الأوروبية، الأثر الواضح في تطور مختلف مجالات الحياة في إيران، بحيث مهدت المؤسسات التعليمية الجديدة الطريق أمام دخول أفكار ساعدت في ظهور طبقة جديدة من المثقفين، يؤمنون بحقوق الفرد ونشر الحرية والمساواة وليس بالحق الإلهي للملوك وتعظيم ظل الله على الأرض، الأمر الذي دفع بهذه الطبقة المستنيرة إلى إعادة صياغة المفاهيم القديمة لتتحول الملكية من ملكية مستبدة إلى ملكية دستورية ومن «مجتمع ديني» إلى «مجتمع مدني وطني».
بداية العصر البهلوي 1924 وحتى عام 1963 شهدت هذه المرحلة نوعاً من الجمود السياسي سيطر على الفكر السياسي الإيراني بشكل عام والفكر الشيعي بشكل خاص، إن فشل الحركة الدستورية، وسياسات رضا شاه التي فرضتها الظروف الداخلية من فوضى أعقبت الحركة الدستورية وجوٍّ عام سيطر على البيئة الدولية في ذلك الوقت يعتبران عاملين رئيسيين في جمود الحراك السياسي. ألقت تلك العوامل بظلالها على حركة الفكر السياسي الشيعي الذي شهد في تلك الفترة نوعاً من الانعزال السياسي، فقد نادى آية الله حائري، أبرز فقهاء تلك الفترة، بعدم تدخل المؤسسة الدينية في الشؤون السياسية، قائلاً «إننا لا نتدخل في السياسة، إن السياسة علم مستقل بذاته، ونحن لا نفقه فيه». وفي مرحلة لاحقة؛ أي بعد سقوط رضا شاه بهلوي وتولية ابنه محمد رضا شاه عرش إيران بعد سبتمبر 1941 شهدت الساحة الإيرانية نوعاً من الانفتاح والحراك ما لبث أن اصطدم بسياسات محمد رضا شاه. ولعل ذلك التحالف الذي نشأ بين آية الله الكاشاني مع الجبهة الوطنية بقيادة محمد مصدق يعد من أبرز الخطوات التي قامت بها المؤسسة الدينية في الساحة السياسية في إيران، غير أن ذلك التحالف القائم وفق أسس براجماتية ما لبث أن انفض ليشهد الاتجاه العقلاني تراجعاً أمام الاتجاه التقليدي الذي عارض على لسان أبرز فقهائه، آية الله البروجردي، تدخل الفقهاء في الحياة السياسية معللاً أن إيران في ذلك الوقت كانت في حاجة ماسة إلى حكومة قوية تكفل الأمن والحماية، واعتبر أن ضعف النظام قد يؤدي إلى استبدال الفاسد بالأفسد. الحقيقة أن تلك الفترة، التي امتدت من بداية الدولة البهلوية حتى مطلع الستينيات، لم تكن مجالاً خصباً لتطور الفكر السياسي الشيعي على «المستوى العملي»، إلا أنه يمكن القول إن تلك الفترة وما حملته معها من جمود سياسي قد أسهمت من ناحية أخرى في تطور الفكر السياسي الشيعي على «المستوى النظري» لتتطور أطروحة ولاية الفقيه وعلاقة الفقيه بالسلطة لتصل إلى أعلى درجاتها، وهي حكومة الفقهاء (الحكومة الإسلامية). في فترة الدولة الصفوية ظهرت مع قيام الدولة الصفوية وتبنيها المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة وسط العالم السني بوادر تحول حقيقي في العلاقة بين الفقيه والسلطة. فالصفويون، الذين أرادوا تمييز أنفسهم وادعاءهم السلطة الروحية والزمنية عن الدولة العثمانية السنية، كانوا قد دشنوا نموذج دولتهم على أساس ديني يدعم المفاهيم السياسية للمذهب الشيعي، وأبرزها إقامة الدولة الشيعية، والذي ما كان له أن يتحقق إلا بمشاركة نائب الإمام المعصوم (الفقيه) لتعود مسألة العلاقة بين الفقيه والسلطة من جديد بأبعاد مختلفة. وفي ظل الخدمات الجليلة التي قدمها الصفويون للمذهب الشيعي دارت قضية مهمة بين الفقهاء الشيعة؛ وهي كيفية الجمع بين السلطة المطلقة للصفويين والتي تعد من المنظور الشيعي سلطة مغتصبة وغير شرعية من ناحية، والخدمات الجليلة التي قدمتها هذه الدولة للتشيع من ناحية أخرى، فدارت الأسئلة المطروحة في تلك الفترة حول: هل يمكن اعتبار حكومة غير المعصوم حكومة أو سلطة شرعية إذا أقدمت على تقديم خدمات للمذهب الشيعي؟ هل تختلف مسؤولية الفقهاء في دولة شيعية مثل الدولة الصفوية عنها مع حكم السلاطين من غير الشيعة أم لا؟ لقد جاءت طبيعة علاقة الفقيه الشيعي عبدالعلي الكركي (1465-1533م) بالدولة الصفوية النموذج الأكمل لإضفاء الشرعية الدينية على السلطان الصفوي، وقد أصبحت طبيعة هذه العلاقة بمنزلة منعطف تاريخي في تطور الفكر السياسي الشيعي؛ فلأول مرة يمارس ال«الفقيه» صلاحيات «النيابة العامة» عن الإمام، ومن ثم «لم يعد الفقيه مضطراً للخضوع بمقتضى «التقية»، بل أصبح قسيماً أساسياً في النظام السياسي، فنيابته عن الإمام المهدي تخوله دمغ الدولة بالشرعية، بينما تمنحه الدولة في المقابل الصلاحيات للمشاركة في تقدير مسارها العام بموجب أطروحة النيابة العامة للفقيه». إن إعطاء الكركي للشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي (1523-1578م) إجازة للحكم بالوكالة عن نفسه، باعتباره نائباً عن الإمام المهدي هو إيذان بتأسيس باب يضفي الشرعية - من منظور الفقه الاثني عشري- على الملوك الصفويين. لقد فتحت هذه الخطوة المجال أمام المدرسة العقلانية الاجتهادية نحو مزيد من الرؤى والدراسات حول طبيعة حدود علاقة الفقيه بالسلطة؛ ففي تطور آخر اعتبر العلامة محمد تقي المجلسي (1627-1659م) الملوك الصفويين ملوكاً عادلين وليسوا حكام جور، ورأى ضرورة الاستفادة منهم في دعم المذهب الشيعي. لقد تركزت اجتهادات المدرسة العقلانية في تلك الفترة على: تأكيد حق الفقهاء في المسائل الشرعية من قبيل القضاء والإفتاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة صلاة الجمعة وغيرها انطلاقاً من نظرية النيابة العامة عن الإمام الغائب. قبول سلطة الدولة الصفوية وإضفاء الشرعية عليها من منطلق الشراكة معها وتأكيدها واعترافها بدور الفقهاء في سياسة الدولة. ويمكن القول هنا إن هذه الفترة قد شهدت اقتساماً للسلطة بين الفقهاء الشيعة وملوك الصفويين.