يحار المرء المتابع للشأن السوري في القنوات الفضائية، فثمة قضية عقدية مهمة عصية على الإدراك، تكمن في أن القنوات المناوئة للثورة تُطلق على القتلى من جنود النظام أو الشيعة الذين يقاتلون صفة «الشهداء». في المقابل، فإن القنوات المؤيدة للثورة تطلق على القتلى من الثوار صفة «الشهداء» أيضاً. هذا يقودنا إلى استنتاج، إما أن كلا الطرفين قد كفّر أحدهما الآخر، فلم تعد قضية التكفير محصورة بالسلفية الجهادية، أو أن فقه جهاد أهل السنّة مغاير لفقه جهاد الشيعة. يُعرّف الجهاد في سبيل الله اصطلاحاً بأنه القتال لإعلاء كلمة الله. فكان فرض الجهاد على المسلمين لتحقيق مقاصد الدين السامية، ليوصل الإسلام إلى أهل البلد التي رفض حكامها الدعوة إلى الإسلام في بلادهم، وأعلنوا الحرب على الإسلام، ومن يطّلع على مصادر التشريع الإسلامي من الكتاب والسّنة يجد فيهما تركيزاً كبيراً واهتماماً ضخماً بموضوع الجهاد، ففي القرآن الكريم هناك حوالى 40 آية تتحدث عن الجهاد بلفظ الجهاد ومشتقاته. كما أن هناك أكثر من 100 آية تتحدث عن الجهاد بلفظ القتال ومشتقاته، وفي السنّة النبوية نجد مئات الأحاديث تركز على موضوع الجهاد، وتقرر أن الجهاد أهم وأفضل من جميع الأعمال والعبادات الأخرى. الإشكالية أننا في المشهد السوري أمام نوعين من الجهاد: الأول، يسمى «جهاد الدفع». وينطبق هذا النوع على أهل البلد من السنّة، لأنه يعني قتال العدو (الشيعة) وصدهم عن بلادهم. فإن لم يستطيعوا دفعه وجب على من بجوارهم أن ينصروهم. وهذا يتمثل في فئام من المجاهدين الذين قدموا من الدول العربية، فإن لم يقدروا وجب على بقية الأمة، شيئاً فشيئاً. وهذا الأخير يتمثل في من وفد من أنحاء العالم نصرة لأهل السنّة، فجهاد الدفع أوسع من جهاد الطلب وأعم وجوباً، ولهذا يجب على كل مسلم أن يقف مع إخوانه المسلمين، ولا يشترط في جهاد الدفع «الإذن»، فالغلام يجاهد من دون إذن سيده، والولد من دون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه، ومن دون إذن الوالي أو الحاكم. اللافت أن الشيعة يدركون معنى جهاد الدفع، ويدركون أن السنّة يقاتلونهم دفاعاً عن ديارهم. فهذا منصوص عليه في مذهبهم، ففي «نهج البلاغة» نجد علياً رضي الله عنه يعاتب قومه ويوبخهم، لأنهم لم يقاوموا المعتدين عليهم من جيش معاوية، فيقول: «ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كَلْمٌ، ولا أُريق لهم دم». والآخر جهاد الطلب أو الجهاد الابتدائي. ويعني جهاد الغزو في سبيل الله لنشر الإسلام في المجتمعات الأخرى وإعلاء كلمة الله في الأرض. هذا الجهاد يُشترط فيه قيادة الإمام أو إذنه، ويكون وجوبه كفائياً إذا قامت به فئة من الأمة سقط الوجوب عن البقية. المعضلة في أن هذا النوع من الجهاد هي إن جاز لأهل السنّة فإنه غير جائز للشيعة، لأن هناك إجماعاً عند أئمة الشيعة على أن هذا الجهاد متوقف حتى ظهور المهدي المنتظر، والأنكى من ذلك أنهم عدّوا أهل السنّة في سورية كفاراً، فبرروا بذلك ذبح أطفالهم ونسائهم، فالجهادية الشيعية والقتال لأجل حرب مقدسة برسم الذب عن ضريح السيدة زينب أداة كي يتم تجنيد الشيعة، تعدت إلى انتشارهم في جميع أنحاء سورية. هذه الظاهرة الجهادية التي كانت تميز السنّة، تمثل تحولاً في العقيدة الشيعية، مقتربة من فكرة ولاية الفقيه التي تبناها الخميني الذي قال إن المسلمين يجب أن يحكموا من رجل دين واحد، على عكس الفكر السابق الذي ترك هذه المهمة للمهدي المنتظر. والحقيقة أن جذور نظرية ولاية الفقيه تعود إلى تاريخ أقدم من نظرية الخميني بكثير، تعود مذ أن حكم الصفويون إيران من 1501 إلى 1736م، وقدّم رجل الدين البارز آية الله الكركي القادم من جبل عامل في لبنان دعمه للشاه الصفوي «طهماسب»، ومنحه إجازة للحكم باسمه كونه، أي الفقيه، ممثل الإمام المهدي الغائب ونائبه. بالعودة إلى مفهوم الجهاد لدى الشيعة، أكدت المصادر الأصلية للشيعة على كراهية وحتى حرمة الخروج للجهاد تحت أية راية إلا راية الإمام المنتظر صاحب العصر والزمان. ومما ورد في ذلك، روى الكليني في «الكافي» عن أبي عبدالله قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت، يُعبد من دون الله عز وجل». وهذا يعني أن جماعة حزب الله وشيعة إيران والعراق الذين يقاتلون في سورية هم طواغيت. وذكر هذه الرواية أيضاً الحر العاملي في «وسائل الشيعة». وروى الطبرسي في «مستدرك الوسائل» عن أبي جعفر، قال: «مثل من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعبت به الصبيان». وروى الحر العاملي في «وسائل الشيعة» عن أبي عبدالله، قال: «يا سدير، الزم بيتك، وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك». وفي «الصحيفة السجادية الكاملة» عن أبي عبدالله، قال: «ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقاً إلا اصطلته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا». المؤشر الأبرز أنه كان لا بد من استحداث أحكام جديدة عند الشيعة، بما يتيح لأصحاب السلطة من رجال الدين الالتفاف على تلك النصوص الصريحة التي تحرم الجهاد قبل ظهور المهدي، وكان لا بد ابتداءً من إيجاد منصب أو مرتبة دينية تضع نفسها في مقابل مقامات مشرّفة عند الشيعة كمقامات الأئمة، فكانت بدعة الولي الفقيه، لكن حتى الخميني الذي يعدّ صاحب النظرية الحديثة والأكمل لولاية الفقيه جعل سلطة هذا الولي في إعلان الجهاد خصوصاً مقيدة وليست مطلقة، إذ يقول في «تحرير الوسيلة»: «في عصر غيبة ولي الأمر وسلطان العصر، الشريف يقوم نوابه العامة، وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء مقامه في إجراء السياسات وسائر ما للإمام إلا البدأة بالجهاد». وعلى هذا التأسيس أضحى من الشرعي السؤال: من الجهة الدينية الشيعية التي شرّعت للشيعة قتل السنّة في سورية؟ * باحث في الشؤون الإسلامية.