باتت مسألة سقوط داعش وهزيمته في الموصل العراقية والرقة السورية مجرد مسألة وقت، حسب ما تفرزه المعطيات على الأرض. وأمام اختناق ما كان التنظيم الإرهابي يسميه «دولة الخلافة»، وتقلص الجغرافيا التي كانت تسيطر عليها، برز السؤال الأبرز، قائلا: «وماذا بعد؟»، باحثا عن إجابات عن المآل الذي سينتهي إليه داعش بعد الهزيمة المتوقعة والمرتقبة. ومع أن قدرة التنظيم على اجتذاب المتطوعين الأجانب كانت تستند جزئيا على سيطرته على أراض واسعة، إلا أن من السذاجة الاعتقاد بأن هزيمته العسكرية تعني نهايته، وبالتالي على المجتمع الدولي أن يفعل كل ما بوسعه للقضاء على التنظيم قبل أن تتحول النسخة الثانية منه إلى شيء أكثر فظاعة: «الخلافة الافتراضية». تقول صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية إن هذا التحول يجري بالفعل.. خلال السنوات الثلاث الماضية، التي تلت إعلان أبي بكر البغدادي لخلافته، كرّس التنظيم جزءا مهما من طاقته للقيام بهجمات خارج العراق وسورية، مما أدى إلى مقتل المئات في مناطق بعيدة عن الشرق الأوسط، آخرها الهجوم في لندن الشهر الماضي. مثل هذه الهجمات تضمن قدوم مزيد من المتطوعين للتنظيم لأنها تعطي صورة عنه بأنه لا يقهر، ففي الوقت الذي يقوم فيه المجتمع الدولي بقصف داعش في سورية والعراق، لا يزال التنظيم قادرا على إلحاق الأذى بأعدائه في أماكن أخرى، وفيما يخسر التنظيم الأراضي التي يسيطر عليها، من المتوقع حدوث مزيد من الهجمات ما لم تتضاعف الجهود لمنعها. قيادة عالمية رغم الإنجازات المهمة التي حققها التحالف الدولي في العراق وسورية وليبيا ضد داعش، تقول «فاينانشال تايمز» إنه لم يتمكن من وقف انتشار أيديولوجية داعش في شتى أنحاء العالم، وردا على الهجمات الأخيرة قامت عدة دول بمراجعة وتطوير قدراتها في مكافحة الإرهاب، وذلك بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى. الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعد بخطة لهزيمة داعش، ولكن لم يقدم أي خطة من هذا النوع خلال اجتماع التحالف في واشنطن الشهر الماضي، ويبدو أن الإستراتيجية الأميركية على المدى القصير هي في زيادة عدد الجنود الأميركيين في سورية والعراق، وهذا سيسرِّع من هزيمة التنظيم في البلدين، لكنه لن يمنع الهجمات في مناطق أخرى، ومن أجل تحقيق ذلك هناك حاجة لقيادة عالمية أكثر نشاطا. الشيء الجيد هو أن قوة التنظيم في العالم ليست بالأهمية التي يحاول التنظيم تصويرها، سواء من خلال تنظيم وإلهام الهجمات الخارجية أو من خلال شبكة التنظيمات التابعة له مثل بوكو حرام في نيجيريا وغيره. لكن النسخة الثانية من داعش قد تتطور إلى مجموعة من التنظيمات الفضفاضة، مع جيوب من الأراضي في بعض الدول الضعيفة، وقيادة افتراضية تمارس عملها من خلال الإعلام الاجتماعي والتكنولوجيا المشفرة. داعش حاليا لا يستطيع شن هجوم عالمي منظم يشترك فيه التنظيم الأساسي مع الجماعات التابعة له، ويجب ألا يسمح له بتطوير مثل هذه القدرة، لذا هناك حاجة إلى إستراتيجية عابرة للحدود لتقليص التهديد الذي يشكله داعش الحالي والمستقبلي الافتراضي. مناطق بلا قوى يرى الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الأردنية، المختص بالجماعات الإسلامية، الدكتور محمد أبو رمان، أن داعش سيعتمد إستراتيجيات تختلف عن تلك التي يمارسها حاليا في حال سقوط الرقة والموصل، وقال ل«الوطن»: «هناك صيغ مختلفة لسيناريوهات عدة قد يلجأ إليها داعش، يتمثل أولها في الزحف إلى مناطق ومساحات لا توجد فيها قوة، سواء للحكومة العراقية أو القوى المتصارعة في سورية، وغالبا التوقعات الأكبر في هذا السياق ستكون بادية الشام بشكل رئيسي، حيث تكون المنطقة التي سيلجأ إليها كثير من أتباع التنظيم. والمقصود ببادية الشام هي المثلث المرتبط من دير الزور من الشرق إلى اتجاه الغرب نحو ريف حمص وجنوبا نحو الحدود الأردنية، وهذه المنطقة ستكون أكثر سخونة في المرحلة المقبلة بين تنظيم داعش والأطراف الأخرى. ومن المتوقع دخول الأردن على خط الصراع لأن هناك تماسا كبيرا مع الأردن. أما الإستراتيجية الأخرى، وظهرت في مناطق محددة، وتسمى إستراتيجية الانحياز في أدبيات التنظيمات الجهادية، حيث إذا تم التضييق عليهم ينحازون إلى الصحراء وإلى مناطق البادية. وهناك إستراتيجية ثالثة شهدها التنظيم في مرحلة سابقة، وهي التحول من الجانب العسكري والسيطرة على الأرض إلى الجانب الأمني وحرب الاغتيالات والهجوم المضاد بصورة مختلفة عما سبق، بمعنى أن أعضاء التنظيم يحاولون التورية، وتنفيذ عمليات أمنية كما حدث في العراق، بعد أن تم القضاء على دولة التنظيم في تلك المرحلة التي تم إعلانها دولة العراق الإسلامية، حيث قام التنظيم بإعادة هيكلة إستراتيجياته، واعتمد على الحروب الأمنية وتكتيك الاغتيالات، والقيام بعمليات تفجيرية. فكر هؤلاء قائم على استخدام الغطاء الاجتماعي والعشائري، وسيكون هذا الغطاء أفضل لهم من القادمين من الخارج، لكن ستبقى هناك معضلة أمام التنظيم في المرحلة المقبلة، وهي التعامل مع عدد كبير من القادمين من الخارج، خاصة النساء والأطفال القادمين من أوروبا ودول عربية، فهناك 550 امرأة من أوروبا تعمل مع التنظيم، وهناك نساء وأطفال من الدول العربية يتجاوز عددهم ال1000 شخص، وقد يضطر التنظيم لتوزيعهم إما إلى الحدود التركية لتسليم أنفسهم للسلطات التركية، أو لدول عربية أخرى ليس بينها الحكومة العراقية ولا الأكراد، أو قد يضطر لنقلهم إلى مناطق أكثر أمنا، والخيار هنا قد يكون شمال الشام. الانعزال صحراويا يجزم المختص العراقي بشؤون الجماعات الإسلامية الدكتور عماد الجبوري، أن التنظيم سيُدحر من الموصل والرقة، وقال «بعض التقارير المسربة تكشف أن قادة داعش يتجهون إلى الشرق والغرب بين سورية والعراق، وتحديدا بين محافظة الأنبار العراقية ودير الزور السورية، لأسباب أبرزها القرب من الصحراء والمنابع النفطية، والاتجاه لاحقا نحو لبنان». ويضيف «عقليا ومنطقيا لا يمكن لداعش أن ينتقل من تنظيم محلي لتنظيم يسيطر على ثلث مساحة العراق ونصف مساحة سورية هكذا، إن لم يكن خلفه دعم استخباراتي سوري وإيراني وروسي وأميركي، وما بعد سقوط داعش سيظل أيضا سوداويا لعدم وجود إستراتيجية سياسية للتعامل معه، وهو سيذهب إلى مواقع آمنة جديدة»، وكشف تقرير أن أبا بكر البغدادي وبقية القادة في التنظيم اتجهوا إلى غرب العراق وشرق سورية، وتحديدا بين الأنبار ودير الزور، ونتيجة لانعزال هذه المنطقة صحراويا اتجه إليها هؤلاء، وربما يعبرون منها لاحقا إلى لبنان لأنه ما بين الشمال السني في طرابلس والميليشيات الإيرانية الممثلة في حزب الله، والبنية السياسية والعسكرية غير المستقرة، يبدو مناسبا للعمل فيه. التحذير من المنتجات توقع الخبير الأمني خالد كريشة أن يخرج تنظيم داعش من المدن العراقية والسورية الكبرى ليستوطن في الأراضي الزراعية أو الصحراوية أو مناطق الحدود، محذرا مما أسماه «منتجات داعش» مثل جبهة النصرة وتنظيم خراسان، وغيرها من التنظيمات الإرهابية، وهى الوارد أن تحل محل داعش بعد هزيمتها عسكريا. بدوره، أكد سامح عيد الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية، أن القضاء على تنظيم داعش نهائيا مسألة معقدة، فهناك نحو 130 ألف مقاتل يحاربون في صفوفه، وتوهم البعض القضاء عليهم تماما غير منطقي وغير مقبول، ويتنافى مع المنطق، وعليه فحتى الحسم العسكري البات والنهائي غير موجود. وتوقع عيد أن تنتج المعارك الحالية مع التنظيم هزائم موضعية له في عدد من الأماكن، محذرا من لجوء التنظيم للعنف العالمي، بعدما يتوزع أفراده في عدد من المناطق والدول، ويمارسون الإرهاب عبر مجموعات صغيرة وليس من خلال كيان الدولة التي شكلوها. وتابع «سيلجأ التنظيم إلى عمليات نوعية وبحرية وتخريبية هنا وهناك، وهو نفس الطريق الذي سلكته حركة طالبان من قبل بعد الحرب عليها في أفغانستان، حيث خرجت عناصرها لليمن والسودان، ثم قاموا بعمليات إرهابية في عدد من الدول». الإرهاب المتنقل سيشتعل يؤكد المحلل السياسي، الخبير في الجماعات الإسلامية د. خالد رفعت، أن هناك سيناريوهات عدة تحيط بمستقبل داعش وباقي التنظيمات الإرهابية المتشددة، وأن مستقبل هذه التيارات العنيفة مرتبط أيضا بالصراع على الأرض بعد رحيل داعش عنها، فهل ستكون الأرض بعده لأصحاب الدم، كما هو الوضع مثلا في حالة الحشد الشعبي الشيعي الذي يحارب داعش، أم يطرد من هذه الأماكن وتندلع صراعات أخرى بعدما تعود الأرض للعائلات والقبائل الأصلية الموجودة فيها؟، لافتا إلى أن مستقبل الإرهابيين مرتبط كذلك بمن سيحكم بعد انتهاء المعارك العسكرية معهم؟ كما أن هناك أسئلة أخرى تتعلق بمن سيأتي بعد داعش الإرهابي، هل تخلق تنظيمات متشددة أخرى من رحم التنظيم؟ أم يتم دعم التنظيمات الموجودة الآن مثل جبهة النصرة وغيرها؟. ويرى رفعت أن «داعش سيستمر لفترة طويلة»، والمشكلة ليست عسكرية أو أمنية فقط، لكنها فكرية ومذهبية، فالتضادات والتناقضات في المنطقة العربية لا تخلق داعش فقط، ولكنها تخلق ألف داعش؟!.. فهناك سنة وشيعة وأكراد، ومسلمون ومسيحيون، وهناك طوائف ومذاهب، وهي بيئة مثلى لميلاد ونمو الإرهاب والتطرف. من جانبه، قال د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة «هناك فرق بين القضاء على الإرهاب، والقضاء على الظاهرة الإرهابية، مشيرا إلى أن القضاء على تنظيم داعش في سورية والعراق ربما يأخذ وقتا أطول من المتوقع، مشيرا إلى أن المواجهة الفكرية والثقافية للتنظيمات الإرهابية أهم مئة مرة من المواجهة العسكرية. وأكد نافعة وجود فرق كبير بين «المرض والعرض»، مشيرا إلى أن الإرهاب استوطن بالمنطقة العربية، كما أن القضاء عليه عسكريا لا يعني القضاء على التنظيم، فأفكارهم الإرهابية موجودة ويعيشون عليها وفيها، منوها بأن الإرهاب خطر كبير وأخطر منه الأفكار التي تحيا في نفوس الآلاف من عناصره، والتي لا بد من استئصالها تعليميا وفكريا وإعلاميا قبل النظر للحل العسكري». سيناريوهات محتملة بعد السقوط 01- الاتجاه نحو بادية الشام لغياب القوى الحكومية والمتصارعة فيها 02- اللجوء للصحراء ومنابع النفط والعبور لاحقا إلى لبنان 03- الاتجاه نحو المناطق الزراعية والحدودية في سورية والعراق 04- التوزع إلى مجموعات صغيرة تمارس العنف والتخريب في كل أنحاء العالم