ما السر في عشق الناس لسماع الشعر، وجعلهم إياه في المقدمة، حتى قدموه على أحاديثهم، التي هي في الأساس دوحته الحاملة لألفاظه، والمزهرة بكلماته؟ ثم ما أمر تفوّقه على سردهم العادي، وقد رُكّب من مفرداته، وصيغت ألفاظه منه؟ هل ذلك يعود لمهارة تركيب الكلمات، وتنظيم موسيقاها، وإعمال التقديم والتأخير فيها، أم يعود لسبب آخر، يتعلق بترتيبها، والموازنة بين أماكنها، حتى تبدو وهي أخف على السمع، وأوقع في النفس؟ نعم، ذلك جزء من السبب، إلا أن الجزء الجوهري من ذلك السبب يكمن في ارتباط الشعر بعوالم افتراضية، ينسجها الخيال الشعري، بما يتماهى مع الوجدان الإنساني، من استرجاع ذكرى، أو استنهاض همة، أو مفاصلة مع عالم واقعي، لابسه الجفاف حتى جفت ينابيعه وتصحرت روابيه، فما إن تتشكل سحب العالم الافتراضي، الذي يصنعه الشعر، حتى تنعتق النفوس من جفاف عالمها الواقعي، لتعيش أجواء الانعتاق اللحظي عن وطأة الواقع وهجير حقائقه، في ظل ما يرسمه الخيال الشعري من آفاق جذابة، تعانق فضاءات خلابة، تسمو بالنفس إلى مناظر من البهجة، تستضيفها في حلقات من السرور، ينساب من أهدابها جداول سعادة، يرقرقها نسائم هادئة، تخامر جفاف الواقع، فتبعث فيه روحا من الأمل وطيفا من التفاؤل، فيتعمق في الوجدان عشق الشعر والإيقان بجدواه. فالشعر عندما يجنح إلى الخيال دون أن يتحرر كليا عن الواقع، يجذب إليه عواتق النفوس ونوافرها، لتتخذ منه جناح نهوض، يحلق بها على مسافات متفاوتة، من مراتع أحزانها ومكامن همومها، ألم نجد ذلك في شعر المتنبي وهو يرثي والدة سيف الدولة: ولو كان النساء كمن فقدن لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال فالواقع يؤكد أن النساء حتى ولو كنّ كتلك الفقيدة، فلن تفضل النساء على الرجال بأي حال، إلا أن المتنبى جنح إلى الخيال، دون أن ينفصل عن بعض حقائق الواقع، فكان لهذا الخيال وقعه اللطيف في تخفيف لوعة الحزن على المكلوم، وتهدئة لواعجه. ثم نجد شاعرا آخر يوظف خياله الشعري بكل تفاصيله، فيرثي كريما جوادا، شاءت له الأقدار أن يقتل ويصلب، فينظر إليه وهو مصلوب أمام الملأ، فيقول: علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات إلى أن قال: ولما ضاق بطن الأرض عن أن يضم علاك من بعد الممات أصاروا الجو قبرك واستنابوا عن الأكفان ثوب السافيات فما أن شاعر هذه القصيدة، ذات الخيال الواسع، على ألسنة الناس، حتى بكى من أمر بقتله وصلبه، وتمنى لو أنه المقتول المصلوب، المؤبّن بتلك القصيدة. فحقائق الواقع حول هذه القصيدة، تؤكد القتل والصلب على ما فيهما من بشاعة، غير أن الخيال الشعري انتزع الصورة القاتمة من هذه الحالة الصادمة، ليحيلها إلى معطف بهي، تشرئب إليه أعناق الأماني، وتتناقله أسفار التأريخ. بمثل هذا الخيال الشعري تتعلق النفوس بالشعر، ويتجلى فيه السبب الجوهري، لتعلق النفوس به، ومحبتها لسماعه.