في وصايا قيمة تركها الرئيس الأسبق للمجلس الشيعي الأعلى في لبنان، محمد مهدي شمس الدين، إلى عموم الشيعة قبل وفاته عام 2001، دعا إلى ضرورة الاندماج في المجتمع، والبعد عن إنشاء مشاريع مذهبية، وألا ينجروا وراء دعوات الفتنة أو تمييز أنفسهم، مؤكدا أن المبدأ الأساس في الإسلام وحدة الأمة، وأن مصلحتهم في التمسك بعروبتهم وعدم موالاة الآخر. وصايا عديدة تركها الرئيس الأسبق للمجلس الشيعي الأعلى في لبنان، محمد مهدي شمس الدين، لأتباعه وشيعة لبنان، عندما كان على فراش المرض قبل وفاته في العاشر من يناير 2001. تعيد "الوطن" نشرها لأن الواقع نفسه الذي كان يتحدث عنه شمس الدين لم يتغير، وبقي كما هو، إن لم يكن قد تغير إلى ما هو أسوأ. حيث قال في وصاياه: أوصي أبنائي وإخواني الشيعة، في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، بأن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تميز خاص، وان لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم، لأن المبدأ الأساس في الإسلام وهو المبدأ الذي أقره أهل البيت المعصومون عليهم السلام هو وحدة الأمة، التي تلازم وحدة المصلحة، ووحدة الأمة تقتضي الاندماج وعدم التمايز. وأوصيهم بأن لا ينجروا ولا يندفعوا وراء كل دعوةٍ تريد أن تميزهم تحت أي ستار من العناوين، من قبيل إنصافهم ورفع الظلم عنهم، ومن قبيل كونهم أقلية، لهم حقوق غير تلك التي تتمتع بها سائر الأقليات. فتلك الدعوات كانت ولا تزال شراً مطلقاً، عادت على الشيعة بأسوأ الظروف، رغم مسعاهم لتحسين ظروف حياتهم ومشاركتهم في مجتمعهم عن طريق اندماجهم في الاجتماع الوطني العام، والاجتماع الإسلامي العام، والاجتماع القومي العام، ولا يجوز ولا يصح أن يحاولوا حتى أمام ظلم الأنظمة أن يقوموا وحدهم، بمعزل عن الآخرين بمشاريع خاصة للتصحيح والتقويم، لأن هذا يعود عليهم بالضرر ولا يعود على المجتمع بأي نفع. فقد ظهرت في العقدين أو العقود الأخيرة من السنين ظاهرة في دائرة الشيعة العرب بشكل خاص، وبدائرة الشيعة بوجه عام، وهي إنشاء تكتلات حزبية سياسية بوجه خاص لغرض المطالبة بحقوق الشيعة، أو إظهار شخصيتهم. وهذه التكوينات بحسب رصدنا لما آلت إليه لم تؤد إلى أي نتيجة تذكر، بل أدت إلى كثير من الأزمات، وعمّقت الخوف والحذر وسوء الظن والتربص في نفوس بقية المسلمين في المجتمع من خصوص طائفة الشيعة، وسعت نحو عزلهم بشكل أو بآخر عن الحياة العامة وعن التفاعل مع نظام المصالح العامة. هذه التكوينات تارة يراد لها أن تكون تكوينات ثقافية محضة، وهنا يجب ألاّ يغلب عليها طابع المذهبية، وإنما يجب أن تنطلق من رؤية وحدوية إلى الأمة، تعتمد على الجوامع المشتركة وما أكثرها التي تجمع المسلمين فيما بينهم، ولا تركز على خصوصيات التمايز والتباين. أما أن تكون تجمعات سياسية أو اقتصادية، فهذا أمر لا يجوز في نظرنا أن يتم بوجه من الوجوه على الإطلاق. وقد ثبت بالتجربة أن التجمعات الشيعية المعاصرة، من قبيل "حزب الدعوة" وغيره، لم تستطع أن تحقق لنفسها بعداً إسلامياً داخل الطوائف والمذاهب الأخرى، وإنما حققت في أحسن الأحوال تعايشاً هشاً مشوباً بالشك والحذر.
التهميش العثماني كان الشيعة اللبنانيون طوال العهد العثماني فئة مهمشة عن المجتمع بالكامل، ليست لها مشاركة في أي قرار، وكانت معزولة في مناطقها، خاصة في منطقة جبل عامل، واستمرت على هذه الحالة إلى أن جاء الانتداب الفرنسي وأعيد تكوين دولة لبنان في سنة 1921. في تلك المرحلة بدأت تتكون للشيعة شخصية معنوية في الاجتماع اللبناني، ولكنها كانت شخصية هلامية لا دور لها يذكر في القرار العام، سواء كان سياسياً أو تنظيمياً أو إدارياً أو تنموياً، على الإطلاق، كما لم يكن لها تمثيل يذكر في تشكيلات الدولة اللبنانية في ذلك الحين. ولكن الأمر تغير نوعاً ما بعد إعلان الاستقلال، حيث حصل الشيعة على مزيد من المكاسب، في تشكيل الإدارة، والميزانية العامة، والمجلس النيابي، فأصبحت لهم شخصية سياسية ومعنوية قائمة على نظام الطوائف المعمول به في لبنان. إلا أن هذا الحضور المميز، الذي مثّل نقلة نوعية كبيرة في حضور الشيعة في الحياة العامة في لبنان وفي تشكيل الاجتماع اللبناني، كان لا يزال ناقصاً نقصاً فادحاً، فقد كان هناك حضور نيابي في مستوى أقل من المستوى المطلوب، وكان هناك حضور في الإدارة أيضاً، ولكن لم يكن هناك أي حضور يذكر في القرار السياسي.
التطور عبر الحداثة نتيجة لغياب الحضور الشيعي في اتخاذ القرار السياسي، ولدت حالتان من الحرمان: الحرمان التنموي، حيث بقيت مناطق الشيعة مهملة من دون تنمية، وتعيش حياة بدائية محرومة من جميع وسائل الحياة الحديثة، وكان هناك أيضاً حرمان في الحضور الإداري، فلم يكن للشيعة أي موقع يذكر في إدارة شؤون الدولة، سوى رئاسة مجلس النواب التي لم يكن لها دور يذكر في اتخاذ القرارات، إذ إن القرارات التي تتخذ في مجلس النواب كانت تتبلور بين القوتين المهيمنتين على النظام السياسي، وهما بالدرجة الأولى قوة رئيس الجمهورية، وبالدرجة الثانية قوة رئيس الوزراء، وقد جرت الحال على هذا المنوال. وحصلت في هذه الأثناء نهضة جانبية في مجال التعليم، فانخرط الشيعة إلى حد كبير في المدارس، وتكونت منهم شيئاً فشيئاً نخبة متعلمة ومتطلعة. هذه الفئة بدأت تتحسس أحوالها، وتتلمس الدنيا من حولها، وترى ما عليه الشيعة من حرمان. ورأت أنه يمكن أن تحقق لنفسها مكاسب من خلال الخروج عن دائرة المذهبية، والانخراط في التيارات الحزبية العلمانية الجديدة. لم تكن بدايات التحسس الشيعي إذاً شيعية، وإنما كانت علمانية ومتأثرة باليسار. فانخرط الشيعة المتعلمون في الأحزاب العلمانية، وانخرطت نخبة منهم في الأحزاب القومية الكبرى. إذًا، خروج الشيعة في نخبتهم إلى الفكر الحديث، ومحاولة الخروج من دائرة الحرمان، لم يكن على قاعدة التشيّع وإنما كان على قاعدة الحداثة. ولم يفكر أحد إلا قليلاً في ما أعلم أن يعيد تكوين الشيعة، ويعيد دمجهم إلى شيعيتهم من جهة، وتصحيح انتماء هذه الشيعة إلى الوطن، والمجتمع الوطني من جهة أخرى. محمد مهدي شمس الدين الرئيس الأسبق للمجلس الشيعي الأعلى في لبنان