يحظى المرجع الشيعي اللبناني المفكر الشيخ هاني فحص بمكانة رفيعة ليس بين أبناء طائفته بل في سائر الطوائف والمجموعات نظرا لأفكاره التوحيدية والشجاعة في نقد الذات. «عكاظ» حاورت الشيخ هاني فحص عن هواجس الفتنة في العالم الإسلامي وعن الشيعية السياسية والأزمة التي تعصف بها فإلى نص الحوار: • هل تعيش الشيعية السياسية مأزقا وأزمة في الوقت الراهن ؟ •• ليست الشيعية السياسية فقط، بل والإسلام السياسي عموما في أزمة ويواجه تحديات حرجة ومحرجة هذه المرة أكثر من أي وقت مضى، لأنه أخذ يصل إلى السلطة، ما يحتم عليه الإجابة على سؤال مهم وهو: كيف يبني الدولة بالشراكة أو بالانفراد، ولكل منهما إغراءاته وتعقيداته. هذا بصرف النظر عن حجم ما تحقق وعن الحجم الكبير الذي ظهر فيه الإسلام السياسي، مقياسا على تراجعات في أحجام أخرى (قومية ويسارية وليبرالية) .. هذه الأزمة التي تتمثل في كمية من التعقيدات والتحديات والأسئلة النوعية، المعرفية والسياسية والاقتصادية والسياسية، إذا لم يتم حلها أو وضعها على طريق الحل بقوة ومنطق وتفاهمات عميقة وواسعة، يمكن أن تتحول إلى هزيمة، تماما كالهزيمة التي تنتظر السياسي الشيعي (حزب الله تحديدا) إذا لم يحسن التصرف بالرصيد الذي حققه بالمقاومة والتحرير، متنبها إلى التعدد وضرورة الديمقراطية والوفاق في لبنان وإلى آفاق الربيع العربي واستحقاقاته، وخاصة في سورية. ومن هنا ربما كانت الأزمة الشيعية أشد تعقيدا بسبب فائض القوة التي حققتها المقاومة بعدما كان فائض القوة قد أسهم في الحصرية الشيعية للمقاومة. والأزمة السياسية تتفاقم إسلاميا وشيعيا كما تفاقمت قوميا وشيوعيا في السابق جراء نمو في القوة لا يرافقه أو يوازيه نمو معادل في العقل، أي الإدارة والتثمير. حزب الله في لبنان قوي بحيث يستطيع أن يمسك بكل مفاصل السلطة بواسطة هذه القوة وبسرعة، فهل يفعل ؟ إذا فعل خسر نفسه والشيعة ولبنان .. والجميع يخسرون أيضا، فهو على ذلك لا يربح إلا تعميم الخسارة، وقد كان لحضور حزب الله في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والإدارية فوائد، ولكنها أقل مما كان مفترضا .. وهل يجوز لحزب الله أن يتذرع بضعف الدولة ليستخدم قوته وحضوره السياسي في المزيد من إضعافها تمهيدا لإسقاطها ؟ وإذا سقطت فمن يعيدها ؟ حزب الله وحده ؟ أو مع غيره من موقع الغلبة والهيمنة ؟ .. أزمة حزب الله والسائد الشيعي في لبنان أنه لا يقرأ التاريخ بعمق .. ليرى أن الغلبة النسبية لطرف على طرف في هذا البلد شبه المتوازن كانت متاحة دائما، وبعض من حققها تصور أنها تامة ونهائية، واستأثر بالدولة والسلطة بناء على ذلك، فألغى شيئا كثيرا من الدولة واستخدم السلطة ضد الدولة، وخسر في النهاية وجعل الشركاء جميعا يخسرون. هذا الكلام يقال للعراقيين أيضا .. وليس هناك إلا معاند أو مكابر ينكر أن للشيعة كمكون عراقي متنوع سياسيا أيضا حقوقا مشروعة في العراق، يمكن أن يصلوا إليها من خلال مشاركة الآخرين على أساس القانون والحق والمواطنة وأولوية الدولة على الطوائف والأحزاب، أما إذا استأثروا فإنهم يصبحون تحت خطر ممارسة الظلم على الآخرين. إن الطوائف السياسية في العراق يقع على عاتقها إنجاز العراق القادر على النهوض بجميع أهله وثرواته ومن أجل الجميع .. ومن أجل العرب، لأن نهوض العراق يعوض كثيرا من الخسائر ويجبر كثيرا من الضعف العربي، ويسهم في تنمية البلاد العربية التي تمر بربيع حقيقي ولكنه ساخن ويحتاج إلى دعم وتضامن وشراكة. لا للاستئثار إذا استأثر الشيعة بلبنان أو العراق يصبحون أقلية متحكمة ويصبحون ملعبا للأمم .. للأشقاء والأصدقاء والأعداء وبدل أن يكون للأتراك والإيرانيين دور شراكة يصبح لهم نفوذا يلغي المحلي، ويبيع ويشتري على أرض العراق. ومن أجل أن نحفظ التوازن في لبنان وغيره لا بد من الانتباه إلى المشترك بين الأزمات .. ولا بد من مشروع عربي للعراق ولبنان، مشروع جاد تنموي وثقافي لا إحساني أو زبائني، يسهم في حل المشكلات الإسلامية. ولو كانت السنية السياسية العربية قد تصرفت كمسؤول مؤهل عن الجميع دائما لما وقعت في مأزق الشعور بالانتصار الذي قد يكون مبالغا فيه إذا لم ننتبه إليه وإلى مستلزماته، والآن ومع الانتصار المسلم به والذي لا يجوز المبالغة أو الاغترار به، بل لا بد من الحذر وتعميق الشعور بالخوف والمسؤولية. مع هذا الانتصار يبقى السنة الأكثر عددا والأكثر ثروة والأكثر إنتاجا للنظام العربي في كل المراحل، يبقون مسؤولين أولا عن حماية التعدد وعدم البحث عن حصتهم لأن مصلحتهم في الوفاق وحيوية الجميع وحضورهم .. وإلا فإن بحث السنة عن حصصهم فإنهم سوف يندفعون إلى مقام الصراع والتجزئة على قاعدة أنظمة المصالح الضيقة، فإذا وسعوا نظام مصالحهم منهجيا أصبحوا متقدمين في كل شيء ومن موقع إصرارهم على المساواة. ويؤسسون لحالة من العافية العربية يصبح فيها الاعتبار للمعاني والأدوار في بناء الدولة والوطن لا للأعداد التي يجب احترامها ولكن من دون التسمر عندها. سلاح حزب الله حزب الله في لبنان يحل أزمته وأزمتنا ويتراجع الخوف من سلاحه الذي تحول إلى ضاغط على هذا الوجود وعلى لبنان عموما .. يحل هذه الأمور من خلال التراجع عن اعتبار ضعف الدولة دليلا على ضرورة بقاء السلاح خارج سياقها أو في وجهها ووجه المجتمع إلى المنطق الأصوب الذي يقول إن شرف المقاومة وثمرة التحرير وصيانة أهداف السلاح المقاوم أن يتم تسييله (أي توظيفه) في تنمية رصيد الدولة اللبنانية وإعادة بنائها على التعدد والوحدة .. وأن يتحول سلاح الحزب من ضاغط على الدولة الضعيفة والمتراجعة إلى رافعة للدولة الرشيدة العتيدة التي لا تستقوي على اجتماعها ولا يستقوي اجتماعها عليها فيسقطها على رؤوس الجميع كما حصل. • يلاحظ أن هناك فشلا شيعيا في التعايش مع فكرة الدولة أو في بناء الدولة، هذا عبر التاريخ وليس وليد اللحظة، هل هو سبب فقهي لأن الفقه الشيعي فقه شخص نافر من الدولة أكثر مما هو فقه دولة ؟ •• على المستوى الفقهي هناك ما يدعو إلى الاحترام. فالفقيه الشيعي وخاصة في القرن الرابع الهجري وما بعده ورغم الانكسارات المؤذية والتي لم يسلم منها أحد في العصر اللاحق، لم يبدل في منظومته العقدية وظل يعتبر أن الدولة التي يؤسسها أو يحكمها شخص هو غير الإمام المعصوم الحاضر أو الغائب وغير نائبه المكلف منه شخصيا (لا نائب الإمام أو ولي الفقيه لاحقا). وخلفيات الفقيه في هذا المسلك محكومة بأولوية النظام العام ورعايته ووجوب الحفاظ عليه وعليه فاستثناء السنية من مشروع الدولة لم يعم قلبهم ولم يؤد إلى انفصالهم عن السوية العامة. هذا في حين أن الدول التي أنشأوها ربما كانت سببا لإشباع محدود لهم في رغبتهم إلى الحكم .. ولكنها لم تشهد لهم بالنجاح النوعي، وشكواهم منها مرة من دولة السادة المشعشعين في خوزستان (عربستان) مثلا والتي كانت دولة دموية، ويعرفون عن مظالم وفسق الدولة الصفوية والقاجارية الكثير .. وقد عانوا منها كثيرا .. أما الدويلة الحمدانية في العصر العباسي، فلم تكن أكثر من إمارة في الإطار العباسي لا في وجهه، إلى ذلك فإنهم لم يكونوا بعيدين بالمطلق عن بنية الدولة في العهود المختلفة. من الأموي إلى العثماني، وفي العصر العباسي هناك كلام عن عشرات من الشيعة الذين كانوا وزراء للدولة .. فالبويهيون توازنوا إلى حد كبير بين السنة والشيعة في بغداد من دون أن يهملوا تكوين عصبية شيعية حولهم بأساليب مقبولة مرة وأخرى غير مقبولة .. وكانوا مقبولين من الشيعة الذين يعرفون ماذا يعني كونهم سلاطين تحت المظلة السنية العباسية. هذا كلام يريد أن يقول إن اختزال الشيعة بالرفض وهو غير المعارضة ظلم لهم وللتاريخ وللحقيقة، لأن الرفض ليس منطقيا دائما وهو لم يكن دائما في تاريخ الشيعة .. وكلما كانت الدولة أكثر احتضانا وجمعا وأقرب إلى الدولة المدنية الحامية للدين والمذاهب بدل التذرع بها والقيام على أساسها، مما يخرب أساساتها .. كان الشيعة أشد رغبة وعملا وسعيا للاندماج في أوطانهم وأقوامهم، وإذا أراد الشيعة أن يتلاشوا وينتهوا وجودا وحضورا رفضوا نداء الاندماج والوفاق والشراكة. ومن هذا المنطلق فإن إمساك الشيعة بالسلطة في أي بلد ليس بشارة بنموهم واستقرارهم ونهوضهم ولا حتى سلامة وجودهم .. إلا إذا كانوا شركاء متكافئين مع الآخرين على أساس وطني وفكر جامع. أما أن الشيعة يفشلون في إدارة الدولة أو لا يفشلون .. فتقديري أنه ليس هناك مثال تام في الوطن العربي أو غيره. وقد نجح السنة في بناء الدولة لأن الدولة في أوقات النجاح فرضت منطقها وأولوياتها. ولذلك فإن من الظلم اختزالهم في السلطة التي لم تكن عيبا بل كانت ضرورة وقد تعلموا منها وربما أكثر مما علموها وهذا (الأول) ليس عيبا. أركز بأن الشيعة كانوا وما زالوا يرون أن ضمانتهم في الدولة، ولذلك اندفع كبارهم من الزعماء والعلماء نحو المشاركة في بناء الدولة اللبنانية تحت الانتداب الفرنسي وأسهموا اجتماعيا في بناء لبنان كوطن نهائي مع الحفاظ على مشاعرهم وأحلامهم العربية. وكانوا في لبنان كما في العراق، لا ينقسمون على أساس سني شيعي أو إسلامي مسيحي، بل على أساس سياسي، موالاة ومعارضة. • على الصعيد اللبناني هل يمكن القول بأن هذه النظرة تقارب المثالثة بالترجمة السياسية ؟ •• أنا رجل دين مسلم شيعي .. أتكلم كمواطن أولا ولبناني بنكهة خاصة في فضاء العروبة الجامع بالثقافة البينية التي أنتجناها معا تحت راية الإسلام وبمشاركة مسيحية فاعلة ووازنة وعميقة وممتازة ومميزة لنا، وأدعو إلى وثيقة أو عهد موقع من كبار المسلمين والمسيحيين يتعهد فيه الجميع بالتمسك بالمناصفة مهما يكن عدد المسيحيين ضئيلا وهذا كلام جاء في وصايا الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وقناعتي أن لبنان من دون مسلمين لا داعي له، ومن دون مسيحيين لا طعم له، هم ضرورة لوجودنا وحضورنا ونحن ضرورة لهم، ومن حقنا أن نطمح إلى شيء يشبه حال الهند التي عليها أن تفتخر بأن رئيس وزرائها سيخي (أقلوي) ورئيس جمهوريتها لأكثر من مرة مسلم .. وشيعي بعض الأحيان (أقلوي في كل حال) ويعاد فيها إلى أساس الديموقراطية والتعددية، بناء الطبقة المتوسطة، البيئة الحاضنة والحاملة التاريخية للديموقراطية والتنمية وثقافة التنمية التعددية .. أريد عودة المسلمين سنة وشيعة إلى المسجد الجامع والمسيحيين إلى الكنيسة لنخرج معا من صلاتنا وتوحيدنا إلى الشراكة في بناء الدولة والوطن.