بالانتباه الذي لا يريد أن يفوته شيء ويمد مسباره في أحشاء التفاصيل والتكوينات، وبالتردد الذي لا يريد القطع ولا الحسم ويفضل اللعثمة تنتج طبقات من وجهات النظر تغني الكتابة جماليا وتلتقط فسحة من ضباب الأفكار كأنها هنيهات المسافة ووضع الحبل قبل الشد، لا إلى الصفر ولا نحو العشرة. حضور يتذبذب بين الوضوح ووجود ينكأه هذا الوضوح فيعرض عنه إلى لذة الطرق الجانبية والدوران في المتاهة لعلها هي الرحلة المبتغاة من الكتابة لا تحلم بمخرج ولا يغريها الوصول. هذا هو حال فاطمة المحسن في كتابها الأول "أقصر طريق لحل المتاهة" (منشورات ضفاف، بيروت - 2015)، عين ثابتة ورواحة، نهمة وطعامها القلق الساري في الروح مسرى السم. طعام هو الطعم يقرب النص إلى مركبتها الورقية: ".. وأني صفر لم يعد يحتمل ثقل حكايته التي بدأها ولم يعد قادرا على إنهائها، وبت أتسلى في عزلتي المحمولة على الأكتاف بصيد النوايا. وقد طال صمتي حتى صار الشق أسفل أنفي محاولة فم وما عدت أحتمل أن أظل حبلا مشدودا بين أصحابي يعلقون عليه لحظات قلقهم".. "أسير بغيمة في رأسي. أشبه لعثمة الضوء في جو غائم، وطيشه في لمبة نيون". تشغل الكاتبة المسافة الفاصلة بينها وبين الأشخاص والأشياء والأفكار. تنازعها رغبة الاستحواذ والنفاذ ومفارقة وهم الصورة، ويلح عليها هاجس الخروج من الإطار بحدود ألفته واعتياديته، ما يجعلها تصهر حالاتها بشعلة التحديق الطويلة اللهب، تمضي وقتا غير متعجل في التأمل.. وفي التجويف الذي يصلها بالعظام ورنتها المحجوبة طية لحم الخارج، المتهدل والمرتخي. تغوص كما لو أنها تنسحب.. تسحب هيئات خاطئة حرفها النظر بصيغة الظن أو الوهم، تترسخ لأن الصورة قالت ذلك ولأن الزمن يبرز شهادته المخاتلة السائلة في اليقين والثابتة في المسامير حيث طمأنينة الحائط، وغفوة النظرة تزيف لحظة زمنية وتحسبها الأبد، أبد التقييم، هذا القيد الذي يحسبه الآخرون أنه نحن ومصداق الصورة التي نفر منها لأننا ببساطة لسنا فيها، وعلينا أن نبحث عنا في مكان آخر وزمان لا ينتمي للقطة الهاربة وتريد مكوثا لا يصح لها أو بالحري لا نتيحه لها: "شغلتني فكرة هذا الشيء المنسل.. هذا الشيء الذي يخشى الإضاءة القوية، اليقين الذي تخلده الصور، الوجود الحقيقي المتأصل، والعرض المجاني../ وفكرت أنه ربما لو اتفقت معهم - كنت سأعرف من هم لو فعلت - على أن يلتقطوا لي صورا مباغتة وفي أوقات مختلفة من اليوم ومن زوايا غير مألوفة لوجدت ما كنت أبحث عنه". إلى الظلال تسعى فاطمة المحسن، تستبطن الدخيلة وتتقرى الهياكل النائية والثاوية هناك. تكتب أو تقرأ الهاجع، ترسم بروفايل (وهي الفنانة أيضا) بخطوط قليلة وفقيرة لكنها كافية ومشبعة لأن تمثل الملامح في البؤرة، قوية الحضور والتأثير. تخطف بملموسية الفكرة أو الشيء، لينهضا لوحة دانية البوح وفي شفتيها الكلام: "وكان ينسى لأن النسيان أمر لا يمكن الانتباه له، ولا يمكن التقاطه في صورة.. ينسى لأن النسيان ليس فعلا على الإطلاق حتى أنه نسي لم سافر أصلا. وعندما عاد ظن أنه سيجدهم بانتظاره، لكنهم تبعوه". ثمة نصوص أخرى على هذه الشاكلة من الرسم والتأمل (تنظر، مثلا، صفحات: 11، 33، 38، 49، 51، 68) التي ترد النظرة من غفليتها أو عفويتها إلى ما هو متغلغل وجدير بالمصافحة الجمالية والإنسانية. ورغم أن الكتاب يأتي في 75 صفحة، إلا أنني كنت أتمنى على كاتبتنا لو نقت كتابها من بعض النصوص القصيرة جدا التي أتت في قالب الحكمة دون أن تتمتع بالشرارة الشعرية (مثلا: ص 52، 57)، أو أتت على سبيل الفضفضة المزوقة بحلاوة الصور (مثلا: ص 65، 53). وهذه الملاحظة لا تقلل من متعة الكتاب ولا من قيمته الفنية. * كاتب سعودي