لا يفشي الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس أسرار «الكتابة»، ولا يهتك سترها، بقدر ما يعمد إلى تتبع لحظات أساسية في رحلتها الطويلة تتبعاً دقيقاً وذكياً، وهي تستبسل في القبض على عوالم وتواريخ منسية لشعوب وأمم وسلالات، بغية تخليدها. في كتابه الجديد «الكتابة: إنقاذ اللغة من الغرق» («وراقون» و «الدار العربية للعلوم ناشرون»)، يتأمل «الكتابة» كفعل هو صورة أخرى لكل ما هو سحري، أو ممارسة بقدر ما تشتبك مع واقع وأحداث، بقدر ما تخلص إلى نتائج، في معنى أو آخر، أقرب ما تكون إلى خيال خلاق. يعاين لؤي حمزة عباس أحوال الكتابة وتماهيها مع أقوام وحضارات، ويتلمس مكابداتها مع الكلمات والبشر والتاريخ والجغرافيا. وفي مقابل ذلك، ينسج هو نفسه، كروائي وناقد، كتابته الخاصة التي يراهن عليها، وتعكس بالتالي وعيه المركب للكتابة، فكتابه يجمع بين الكتابة كمقاربة لواقع شديد التعقيد، عصيّ على الإمساك، واشتغال بالكلمات واللغة من ناحية، وبين الكتابة بصفتها موضوعاً للتأمل فيها كطريقة ليس لإنقاذ اللغة فحسب، إنما الحيوات والزائل والمهمل من الغرق ومن النسيان. كتاب لؤي عباس بقدر ما هو كتاب عن الكتابة، هو أيضاً وفي المستوى نفسه من الفرادة، كتابة تتحقق عبر جمع الشظايا والنتف والتفاصيل. لا يكتفي إذن لؤي بالكتابة عن الكتابة، ولا يقنع بدور المفسر لما يفعله الكِتاب بالأحداث، لكنه يروي سيرة المعارك، مثلاً، وكيف للكتابة أن تبعثها، وفي الحين عينه يكتب نفسه كجزء منها، يجعل منها طرفاً في المعركة المحفوفة بالأهوال والموت، إذ يستعيد مواضيع الكتابة وانشغالاتها، وفقاً لطريقة مبتكرة، ورؤية تجعله شريكاً أساسياً، وبقدر ما ينفعل بصنيع الكتاب، على اختلاف أجيالهم والبلاد التي ينتمون لها، والحقب التاريخية التي عاشوا في كنفها، في ملاحمهم ونصوصهم الفريدة، هو أيضاً فاعل عندما يتصدى لاستدراج لحظات في الكتابة، تحققت من خلال تعاطيها مع أحداث كبرى، ويعيد صياغتها في سياق خطة عمل جديدة. لا ينشئ صاحب «ملاعبة الخيول» نصاً على هامش النص أو في موازاته، إنما هو متورط بالكتابة عن الكتابة، عندما يروح يؤلف كتاباً الدليل على وجاهته وذكائه وصدق مسعاه هو الكتابة نفسها التي يحققها لؤي حمزة، ويتحقق من خلالها ككاتب لا يختلف، بدرجة أو أخرى، من ناحية المسؤولية والالتزام، عن أولئك الكتاب الذين يتملى كتاباتهم. «أنا هنا سيد الفكرة وصاحب الكلمات». وكأن صاحب «الفريسة» ينسى أنه يصنع كتاباً، فيروح يثبت جوهره وفحواه من خلال الصوغ الذي يبدو تلقائياً وعفوياً، لفرط الحساسية العالية مع الكلمات واللغة. يكتب حمزة عباس النسيان، فيتحول الكتاب إلى ذكرى ما حدث واندثر، ولم يعد سوى ظلال تذروها الرياح. ويكشف كم هي الكتابة مراوغة، «ففي كل مرة نطمح فيها للكتابة عن بئر أو شجرة أو بلد أو حرب، نكتشف أننا نتيه، فنكتب عن شيء آخر». تغيّر الكتابة -وفقاً للكتاب- العالم وتلقي بنا إلى عالم غريب، هو عالم الكتابة ذاته بما فيه من غرابة وما ينطوي عليه من حلم ووهم ورصد حقائق وابتكار. تصبح الكتابة هنا الحد الذي تتحول معه التجارب إلى إشارات محكمة ورموز، والتعبير الأمثل عن فردية الفرد، وعن وجوده كائناً فاعلاً في فضاء اللغة. ولأن الكتابة لقاء مصائر لا يخلو من فجيعة، يحضر الجندي في كتاب لؤي وكتابته، علامة على انشغال الكتابة بالحروب والمعارك، بالانتصار والهزيمة. ينبثق الجندي من عصور وحقب ومراحل تاريخية متفرقة، قادماً من مجتمعات قديمة وحديثة، جيوشها إما تمارس الإبادة أو تكون موضوع لها. من جندي آرنست همنغواي إلى جندي «الهون». عبر الكتابة يفكر الجندي بالحروب التي خاضها، يستعيدها حرباً إثر حرب بأزمانها التي يصعب أن تستعاد. في الكتاب، الجندي هو الذي يوجه الكتابة ويمضي في دروبها. يصغي صاحب «كتاب المراحيض» إلى الجندي وهو يعبر من حرب إلى أخرى، ويتحدث بلسانها. الجندي الذي شهد بناء سور الصين حجراً بعد حجر، والذي تمكنه الكتابة مطولاً عن غزوة وادي الفولجا، عن الزحف غرباً، عن تراجع القوطيين، عن القفزة الشاهقة بين قرنين. يبعث الكاتب العراقي الجندي ليكتب من خلاله عن الحروب التي تسترجع في الكتابة، فكل حرب فيها حكاية عابرة. كل حرب هي حرب في اللغة، الحرب التي يكون في مستطاع اللغة أن تستعيدها في أي لحظة تشاء، بخيولها وفرسانها وكرات لهبها. وكأنما الكتابة إذا لم تختلط برائحة البارود وبالدماء، بجثث القتلى، بالجغرافيا والتاريخ، لا تكون كذلك. الكتابة، بحسب لؤي حمزة، مغامرة في الإنصات لما حدث، لما مرّ ولم يلتقطه أحد، لما لم يحدث ولم يمرّ ولم يلتقط. كتابة تتقاطع فيها سير فلاسفة ومفكرين مثل ما يكل آنجلو وفالتر بنيامين وهرمان هيسه وأوكتافيو باث ومايكل أنجلو وهمنغواي وأورهان باموق وهوميروس وهانز جورج غادامير ورعد عبد القادر وسيرفانتس وهانس كريستيان آندرسن ودوريس لسنغ وماركيز وكازنتزاكيس ونجيب محفوظ وفؤاد التكرلي ويوسا وألبرتو مانقويل وفريدا كالوا ومحمد خضير... وهو لا يهدف إلى فضح المسالك التي تأخذها الكتابة عند هؤلاء، إنما يجده مأخوذاً بلحظات شديدة الحساسية، اللحظات التي يكونون خلالها في مواجهة لا فكاك منها مع مصائرهم، ثم تحول هذه المصائر، في الكتابة، إلى مسألة تمس فردية كل فرد وموقفه من الذات والعالم. يفكر الكاتب في ما أنجزه هؤلاء الكُتاب، إذ تلهمه شذرات وعبارات تركوها هنا أو هناك، يلتقطها ويواصل الكتابة عن الكتابة. حتى فرق الإعدام الجوالة، وأصوات الرصاص، وسيرة والده، ورأس تمثال صدام حسين لحظة سقط، ودماء الأسرة المالكة في العراق، كل ذلك يصبح موضوعاً تنشغل به الكتابة، وتنفتح على برهة إنسانية فريدة من نوعها. إنه يصغي إلى كل هؤلاء، يقطر ما كتبوه، يقرأ المذكرات ويعيد بناء المشهد لحظة بلحظة على نحو جديد. كتابة لؤي تبحث في صلب الوحدة، في صمتها وتسلسلها وانقطاعها، وهي مواجهة بين الشك واليقين، الشك في قيمة ما يكتب، مقبل اليقين الأبدي بجدوى الكتابة. من كتابة المنزل مروراً بكتابة الحروب، إلى كتابة المدن، فالمدينة لغز من ألغاز الكتابة، كما يقول صاحب «مدينة الصور»، وواحد من كبرى متاهاتها. لا تفتقد هذه الكتابة العمق والحساسية، وتنطوي على قدرة في جعل قراءتها لحظة إنسانية نادرة للحوار مع الذات. في هذا الكتاب تأكيد أهمية الوحدة بالنسبة للكاتب والكتابة، ومثلما أن للخيانة في الكتابة، كما في الحياة، معنى موجعاً، إلا أنه مثلما يؤكد لؤي عباس، لا وجود لكتابة بلا خيانة.