قد يقع اللبس في أذهان العامة حول بعض الشخصيات في التاريخ الإسلامي، كما يتوقف مفهوم بعض العامة عن "أبي سفيان بن حرب" عند مرحلة ما قبل إسلامه، غافلين عما بعدها حيث حسن إسلامه وأبلى بلاء حسنا. لكن هناك مع الأسف تزييف متعمد لبعض الشخصيات التاريخية المرموقة، من لدن أصحاب الهوى، حتى إن هارون الرشيد على سبيل المثال لم يسلم من الافتئات على تاريخه الجليل، بتصويره في جلسات افتعلوها للهوى والطرب والجواري والغواني والمحظيات، رغم أنه كان يغزو عاماً ويحج عاماً! وها نحن اليوم، تنقل إلينا الشاشات افتراء وافتئاتا على شخصية إسلامية رائدة، هو "السلطان سليمان القانوني" في المسلسل الدرامي "حريم السلطان"، الذي يصور هذا الخليفة ماجنا يعاقر الخمر، خاضعاً لغوايات النساء، منغمساً في الشهوات! وإنني لأدعو كل من يشاهد هذا المسلسل، ولا يعلم حقيقة هذا السلطان، أن يعود إلى المراجع الثبت عن تاريخه، ليعلم كم هو ظالم هذا العمل، بحق رجل على هذا القدر في تاريخ الإسلام والمسلمين. ودون أن أحجر أو أحدد، فإن من هذه الكتب التي أوردت تاريخ الرجل على النحو الصحيح: "العقد المنظوم" للفقيه المؤرخ (طاش كبري زاده)، و"أخبار الدول" للمؤرخ (أحمد بن يوسف القرماني) وكلا المؤرخين قد عاصر السلطان، وكذا كتاب "شجرات الذهب" للفقيه المؤرخ (ابن العماد الحسن الحنبلي)، وكتاب "السلطان سليمان القانوني .. أكبر ملوك الإسلام"، وغيرهم ممن أرخوا بالحق والصدقية. وكل هذه المؤرخات تؤكد أن هذا السلطان قد تولى الخلافة في سن السادسة والعشرين خلفاً لأبيه سليم الأول، وأنفق عمره غازياً في سبيل الله مجاهداً لنصرة دينه، مجدداً وحامياً لدعوة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وبدأ غزوه بأن خرج بنفسه على رأس جيش جرار، حين قتل ملك المجر السفير الذي أرسله السلطان إلى ملوك أوروبا لتحصيل الجزية. ثم واصل قيادة جيشه بنفسه، لمواجهة جيوش القياصرة، وصد هجمات البرتغاليين على الهند المسلمة آنذاك، وعلى شرق أفريقيا، وحرر عدة بلدان من الإسبان، وأنقذ عشرات الآلاف من المسلمين الفارين من اضطهادهم، حتى استحلت رقعة خلافته معظم قارات الدنيا الثلاث المعروفة آنذاك: أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وهكذا بلغت الدولة الإسلامية في عهده أوج اتساعها حتى غدت أقوى دولة في العالم، ولم يهنأ له بال في أداء مهمته، حتى مات سقوطاً عن حصانه في آخر غزواته بعد أن انتصر فيها، فقال قولته المشهورة "الآن .. طاب الموت". وقد وصفه (الجبرتي) في مؤلفه "عجائب الآثار" بأنه أقام الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية وعظَّم العلماء وأهل الدين، أما تسميته ب"القانوني" فمردها إلى وضعه للقوانين، التي تنظم الحياة في دولته العظمى وفقاً للشريعة الإسلامية مستعيناً في ذلك بالعالم الجليل (أبو السعود) صاحب التفسير الشهير للقرآن الكريم "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم"، وبذلك أصلح النظام القضائي العثماني. إضافة إلى كل ذلك، فقد كان "سليمان" شاعراً يكتب قصائده تحت اسم مستعار هو "محبّى"، وصائغا له خبرة بالأحجار الكريمة، مغرماً بالبناء والتشييد، وراعياً للثقافة، مشرفاً على تطور الفنون والأدب والعمارة، متحدثاً بأربع لغات. وأخيراً ... ولأنه ليس من العدل أن ينسب لمثل هذا "رجل"، تلك الافتراءات التي يحملها هذا المسلسل الدرامي؟! إذًا فعلينا أن نطرح السؤال: لماذا يأتي مؤلف هذه الدراما أو بالأحرى مزيفها ليصوغ لنا هذه القصة؟! إنه التحول العجيب للإمبراطورية الإسلامية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، إلى العلمانية على يد كمال أتاتورك، والتي ما زالت تركيا تؤكد حرصها على التمسك بها ضمن نظام الدولة، ربما تقدمها قربانا للأوروبيين، كي يوافقوا على دخولها إلى جنة اتحادهم، وسؤال آخر يطرح نفسه: كيف يتساوق هدم هذا النموذج الإسلامي المبهر في شخص سليمان القانوني، مع هذه العلمانية ومع الحزب الذي ينطلق منه الحكم تحت راية الإسلام، ومع دعمه واحتضانه للإخوان المتأسلمين؟! وكأن هذا العمل الدرامي قد جاء ليحيي الصورة الملفقة الممسوخة للشخصية المسلمة (العثمانية خاصة) التي افتعلها واخترعها الأوروبيون، انتقاماً من هذا السلطان العظيم، وإفساداً لشبابنا بما يعرضون في مثل هذه الأعمال من مجون! وأختم مناشداً القناة التي تبث هذه الدراما ألا تواصل التعامل مع هذه المهزلة، سيما أنها تتمتع بنسبة مشاهدة تحسد عليها، ويجب عليها احترام عقول مشاهديها.