منذ زمن وأنا مشغول بكثير من التفكير والتأمل.. الأحداث التي تطوف حولنا لا تفارق ذاكرتي بسهولة، وليس من اللائق تجاهلها. في مكان ما شيء من السوء.. وهنا أشياء كثيرة من الخير والرضا. لست سياسياً لأكتب تحليلاً كما يفعلون.. حسبي أني مواطن أرتع هنا مما رزق الله به هذه الأرض.. وهو أيضاً مع رزقه لها قد باركها وجعلها بلداً أميناً.. ليس علينا الكتابة فقط.. علينا إحاطة هذا الوطن بمحبتنا وأرواحنا وبكل ما نملك. إن الانسان بلا وطن كأرض دون سماء..! لا ننجو من الحكايات التي تحوم على ذاكرتنا منذ انفجار الحياة الآمنة والرغيدة هنا.. ولم نكن لنمضي لو أننا بقينا للحظة للاستماع لتلك الحكايا الباطلات.. منذ امتداد الظلال على الصحراء، والجبل، والسهل، والشموس الأخرى ترجو أن يزول لو بعض تلك الظلال الوارفة.. لن تتمكن أبداً من تلك الأماني.. إن هي إلا أماني..! قرأت مرة بين شعاعات أحدهم فكان ناقماً ويدق رأسه من الغيظ بدعواته التي لن تستجاب. لم يكن ليغيظني ذلك السواد الذي يحبذ الطفو على السجاد الأبيض، وعلى الجزيرة المباركة، لكني لم أكن أعتقد بأن هناك كمية كبيرة منه..! حقاً، الوطن بمفهومه كان صغيراً لكننا لاحقاً فهمنا، وأدركنا كم الوطن هو كبير، وأنه مهما كانت محاولات الاستبدال، أو الركون إلى ظلال غير ظلاله تفقدك الطمأنينة، وتبعثر الهوية المقدسة التي لا تكون إلا به.. وطننا الحقيقي لا تثقب ظلاله خيوط الشمس. إنه طوبى الحياة. الوطن الصغير الذي ضمه، وأعتقد به ذات يوم أنه وإن كان لظى إلا أنه رحيم.. وتتخلله البركات، وهو أكثر أماناً من سواه.. هو ذاته الوطن الممتد بين النخل، والصحراء، والجبل.. هو ذاته الوطن الذي لا تنازعه فيه روحه لو خيالاً بتركه، أو عتابه إنما كان يجمع كل العواطف ويمليها بالصمت الرضي.. إنه الولاء المستحيل إبادته، أو محوه بالضلالات، أو التجني.. وهو انصهار الروح مع التراب، وتكوين متقن أحدثته الفطرة، والعقل، والإحسان. تكوين انتماء التشبث بالوطن، واعتباره جزءاً من إنسانيته ومن وجوده. قبل أن نعرف علم الوطن، و-سارعي للمجد والعليا- لم نكن ندرك ما يعني الوطن، لكن شيئاً ما كان يتسلل لروح الطفل فينا، وكأننا كنا نتعلم أن هناك شيئاً من الطهر، والنقاء والعبادة لا بد أن نستنشقه جيداً، وأن يعبر لأجسادنا، ويمتزج ببراءاتنا. ونتدثره عندما يمسنا البرد، أو الخوف. الوطن الذي قرأنا ملامحه من العلم الأخضر كنا نعده طفلاً جميلاً يلهو معنا، ويتعلم حروف الهجاء، وسورة الإخلاص مثلنا.. لكن أبي كان يعرف تماماً أن الوطن فتى بجمال يوسف، وطهارة مريم، وتقديسه شيء من الرجولة والكرامات. العلم الطفل الذي كان كل صباح يرفرف، ويلقي علينا تحية الشمس، وصلوات الأرض قد توأمنا، وتقمصناه حباً مرضياً. فنمونا، ونما معنا، وتلونا بأخضره، وقطعنا بسيفه أوردة الشيطان المنكرة التي قد تجلب له ذات لحظة بعض التعب، أو قد تصيبه بالدوار. الوطن علمنا حروف الهجاء، والإملاء، والتلاوة، وسارع بنا للمجد والعلياء؛ ومن الجيد حقاً أن نقف له كل يوم ونتلوه.. ونرد -الله أكبر-.. من الجيد أن نرددها في النفس بإيمان مطلق، وأن نجمع الوطن كل نهار، ومساء ونزيل عنه أشواك قد تجرحنا، ونجعله في وعاء أخضر في قلوبنا، وأفئدة أطفالنا. من الجيد أن نلبس الوطن تاجاً ونقرأ عليه سورتي الفلق والناس، ونتجول به بين أرصفتنا كي يراه الذين بأوطان مشوهة. الوطن هذا ليس أرضاً منحتنا المتعة؛ ولا أرضاً طوقتنا بالأمان، ولا تراباً بذرنا فيها أعمارنا. وليس حقلاً جنينا منه فاكهة وأبا.. ولا سجادة منها دعونا فاستجيب لنا، ولا قافلة من الزيت جعلت العالم يتجه لنا.. وليس حفنة مال سيدتنا.. ولا مقدسات وجهت الجباه لأرضنا.. ولا ضوءاً، ولا ماءً، ولا قمراً، ولا حدوداً ومناطق، ومساحات وخيرات؛ ليس كل هذا وحسب؛ الوطن هذا المفضل فعل رباني، وقضاء قدري مختار. الوطن هذا الذي يحتبي بشراييننا، ويبني أعشاشه من شهواتنا اختلافاً معتقاً بالحسنات والرضا، والثبات، وهو الغرس النابت في الأرواح انتماءً، وهو إتقان الولاء للعلم الأخضر المنصوب جلالاً في عقولنا، وسحر الهواء الذي يشاركه رقصة السلام. الوطن هذا الإعجاز المفضل في ضحاه لا ننتظر عشيه، إذ هو ألق وصفاء، وعند مسائه لا نود الجلاء، إذ هو الأنس والهناء.. الوطن المفضل ذو وجه كوجه الأرض الصالحة إن ينظر في مرآة الغيم سيجد أعيننا تفتر، ويغمرها انشراح أخضر. وإن ننظر في كل الأشياء سنجده الماكث فينا كطهارة فجر وتسابيح راهب. الوطن شيء نابت فينا، وامتداد لجذور الحياة، بل هو جذورها فلا حياة دونه.. الوطن أب، وأخ، وصديق، وأم.. وحياة راضية مرضية. اصمت أرجوك: لا تخبرني بما أكره من رتوش في وجه الوطن.. صدقني ذات يوم سيبدو الوطن بدونها وضّاء الوجه مشرقاً.. اصمت أرجوك أياً كان حديثك عن وطني لن تستطيع زعزة عرشه من روحي.. اصمت أرجوك.. إن الوطن يعيش سلاماً.. وهناك لئام يرجون الشر ويبغون أثاماً اصمت أرجوك لا تخبرني: فوطني يعيش سلاماً