في رحلة شتاء مضت، وفي الطريق من الغردقة إلى القاهرة، كنت أشاهد على جانبي الطريق في مكان قصيّ ضوءاً فأسأل صاحبي -المسيحي- عن ذلك فيقول إنه (دير)، وكنت ألح عليه بأن يبين لي أكثر، فكان يقول إنهم بعض -الرهبان من النصارى- يصنعون لأنفسهم مكاناً زهيداً منعزلاً يتضرعون فيه إلى الرب تعالى. وينصرفون عن الحياة ومتعها ويبقون كذلك حتى الجرس الأخير. مازلت أستحضر ذلك الضوء، ويضيء في داخلي من حين لآخر. كنت أرجو أن ألمس تلك الحياة التي يعيشها أي من أولئك الرهبان، وتفاصيلها التي لربما تكون مثيرة. لكني كنت أخشى أن لو فعلت بأن أكون قد ارتكبت جرماً دينياً. كما أن ثقافة المحرمات، التي حُقنت بها دماؤنا، زعزتني وجعلتني أتأمل فقط من بعيد! أؤمن تماماً بفكرة العبادة المنعزلة تلك التي تتيح لفاعلها اتصالاً روحياً بالله تبارك وتعالى، وانفصالاً جسدياً، وعقلياً عن الحياة المحيطة فتغدو الجوارح في سكون، والروح تعلو فتتجلى من الخطايا والأدران في لحظة الفعل. ثم تعود لتمارسها حين الانقطاع. هي العزلة الروحية المؤقتة في لحظة تلملم النفس التي بعثرتها أفعال الحياة. حين تكون العزلة كل الوقت والنفس، وقد روضت والحياة الحمقاء خارجها، كيف ستغدو؟ أظنها ستستبق الغيب، وتطرق أي الأبواب الثمانية، وتستقر لتنتظر الآتين من بحر الحياة اللجي. وحين تشقق الأرض. في مكان ما في هذه اللحظة أرواح تسبح في فضاء الرحمات، وترقص في السماء راضية مرضية. لا ترجو النهاية، فالأرض حلقة وصل للعبادة والسعادة. وقد ترجو النهاية فالحلقة الأخيرة ضياء، وفسحة مد النظر وباب كالدنيا للفردوس. في اللحظة ذاتها، أمة تسيح في الحياة تعتاد الخطايا، وترتع في وحل المنكر، وتصر على العبادات العادات، وتلهو بالرياء، وتستجيب لشهواتها من نداء واحد. تموج الحياة بنا فنعبد، لكننا في الحقيقة نعيش انقساماً بين عباداتنا تلك، وبين احتواء الحياة لقلوبنا التي يفيض منها ضعف الإنسان. نلتفت صوب الحياة، وتأخذ بأيدينا إلى ما نبغي، ثم تصفعنا فنعود عطاشى نرجو قطرات الرحمة. شيء من الإنسان الشيطان يُجزِئ الإنسان، ويضرب بينه، وبين الحياة بسور غليظ تارة، فلا يحبذ رؤيتها إذ هي كثير من القبح، وتارة يتحول هذا السور إلى ستار شفاف يرى من خلاله الحياة راقصة جميلة أخاذة، فيزيح الستار، ويمضي إليها فرحاً مستبشراً. هي العزلة إذن تلك التي تحقق التوحد والأمان. العزلة التي تصهر أمشاج القلب والوجدان، وتعيد خلقهما لتجعلهما صوب قبلة واحدة، صوب الرب. العزلة هي انحياز، واختيار، وانتصار. انحياز للتفرد بجلالات القداسات المطهرة، وطقوسات الصلوات الطيبات. واختيار للنجاة من كلابيب اللهب المنصوبة على متن الشهوات من الحياة. وانتصار على فلول الطواغيت المندسة في زوايا النفس، وتحت ظلال السمع والبصر والنواصي والأقدام منها. العزلة قدح من التأمل ممزوج بالأنجم، والأقمار، والهواء، والنبات والمطر، قدح يروي أرواح المعتزلين، وشربة لا يظمأون بعدها لأقداح الحياة. العزلة ألق الشاعر، وسكينة القارئ، وروحانية العابد، ونقاء للمتألم بالتأمل، وصفاء عقل، وثورة أحاسيس وبركان مشاعر هادئة. أعتقد أننا في زمن يحتاج بعضنا فيه للعزلة الدائمة، فكثير هم الذين أبدعوا عندما اعتزلوا، والتاريخ شاهد على ذلك، وليتركوا الحياة للأنعام، وأهل الحياة ليرتعوا فيها كيفما شاءوا. العزلة استرخاء أبدي من صخب حياة منكرة، وعصمة من طوفان كبد الحياة ولوعاتها، وركون للدعة، والطمأنينة المبتغاة. أكتب عنها ومازلت هنا بين فحيح الأرصفة، وبين أبواق السيارات والمساءات المترامية الزحام. لكنه ضوء -الدير- وطريق القاهرة الذي استحضرت، فليتني كنت قد زرت. لست أدعو لنبذ الحياة، ولكن العزلة مفضلة عندما لا تكون كما يجب، وعندما نعيش في انتظار وجل مملول، وواجب للذهاب. قد تنتاب بعضنا حالة من التأفف والعصيان فيفكر لو انتبذ مكاناً قصياً، وقد يخالطنا بعض الكدر الذي منه نرجو أن لو كنا في طرف آخر أكثر هدوءا، وأرق جانباً. إن التارك للحياة وراءه سيجد أمامه طريق الخلاص. وستنفد من روحه شياطين الغضب الآثمة، وسيطعم لذة التنسك، والتفرد، والتقرب الوجداني إلى الواحد الكمال. سيشفى من أسقام الجهامة، والتذمر، والعقل المتكور بين السيئات، والحسنات غير الآمنة. لا شيء يفني النفس المتخثرة بدماء الخطايا ثم يبعثها في ذات الحياة بدماء البركات، والطهارة إلا العزلة.. تلك هي القادرة على تكوين معجزة النفس، ونصبها في مكان لا تصرخ فيه، ولا تضيع، ولا تقيد. العزلة حرية تطوف بالنفس بين السموات والمنتظر. لابد سيجيء نهار قد أنهيت قبل غروبه كتابة شجن. أعد قهوتي في مسائه ثم أعتلي سقف -ديري- وأهمس للزهرة، وشقيقتها، وللأنجم التي تمسح عن عينيها بقايا الشمس. أحضرها وأحكي لها كيف كانت قصة النهار، وصديقتي شجرة الصنوبر. ثم أقيم صلاتي فأنسى مؤنساتي الصغيرات. من الرائع حقاً، والمثير اختيار عزلة قبل أن لا تمنحك حياتك حق الاختيار، إذ إن غداً سيأتي بها دون أن تريدها. وستطوفك العزلة الساحقة في أخر فصول العمر. ولن يكون بإمكانك أكثر من الحسرات، وتذكر حقائب الماضي الفارغة من أي شيء إلا بعض عقارب الخطايا المخبوءة في أدراجها. ستقلق حينها، ولن يكون بإمكانك إلا أن تعيد التأمل في السقف المنضود والتوبات التي قد ُترد عليك. الصمت سيكون عزلتك الاضطرارية حينها، وستخشى من المقبل بعدها، لأنك لست على ما يرام. الحياة هنا في تصوري انتحار على مراحل. لا أظن من الجيد لنا بلوغ أخر مراحله دون شيء. وهي رائعة لو كانت كما نشاء لكنها ليست كذلك.