(شوطني).. تعني قلبني على النار.. والشويطة: هي سنبلة الذرة التي تصطلي بالنار حتى الاستواء.. كان يقولها حين يشعر بشوق للقرية التي هي موطنه.. في موطنه الآن لكنه لا يشعر بذلك إذ غادرها دونما عودة.. ورثنا منه أشياء رائعة الأعظم منها -وطني لو شوطني-. حقاً.. الوطن بمفهومه كان صغيراً لكننا لاحقاً فهمنا، وأدركنا كم الوطن كبير، وأن مهما كانت محاولات الاستبدال، أو الركون إلى ظلال غير ظلاله تفقدك الطمأنينة، وتبعثر الهوية المقدسة التي لا تكون إلا به. وطننا الحقيقي لا تثقب ظلاله خيوط الشمس. إنه طوبي الحياة. الوطن الصغير الذي ضمه، وأعتقد به ذات يوم أنه وإن كان لظى إلا أنه رحيم.. وتتخلله البركات، وهو أكثر أماناً من سواه.. هو ذاته الوطن الممتد بين النخل، والصحراء، والجبل.. هو ذاته الوطن الذي لا تنازعه فيه روحه لو خيالاً بتركه، أو عتابه إنما كان يجمع كل العواطف ويمليها بالصمت الرضي.. إنه الولاء المستحيل إبادته، أو محوه بالضلالات، أو التجني.. وهو انصهار الروح مع التراب، وتكوين متقن أحدثته الفطرة، والعقل، والإحسان. تكوين انتماء التشبث بالوطن، واعتباره جزءاً من إنسانيته ومن وجوده. قبل أن نعرف علم الوطن، و-سارعي للمجد والعليا- لم نكن ندرك ما يعني الوطن.. لكن شيئاً ما كان يتسلل لروح الطفل فينا، وكأننا كنا نتعلم أن هناك شيئاً من الطهر، والنقاء والعبادة لابد أن نستنشقه جيداً، وأن يعبر لأجسادنا، ويمتزج ببراءاتنا. ونتدثره عندما يمسنا البرد، أو الخوف. الوطن الذي قرأنا ملامحه من العلم الأخضر كنا نعده طفلاً جميلاً يلهو معنا، ويتعلم حروف الهجاء، وسورة الإخلاص مثلنا.. لكن أبي كان يعرف تماماً أن الوطن فتى بجمال يوسف، وطهارة مريم، وتقديسه شيء من الرجولة والكرامات. العلم الطفل الذي كان كل صباح يرفرف، ويلقي علينا تحية الشمس، وصلوات الأرض قد توئمنا، وتقمصناه حباً مرضياً. فنمونا، ونما معنا، وتلونا بأخضره، وقطعنا بسيفه أوردة الشيطان المنكرة التي قد تجلب له ذات لحظة بعض التعب، أو قد تصيبه بالدوار. وطن الأمس الذي علمنا حروف الهجاء، والإملاء، والتلاوة وحفظ سورة البينة. وسارع بنا للمجد والعلياء من الجيد حقاً أن نقف له كل يوم ونتلوه.. ونرد -الله أكبر-.. من الجيد أن نرددها في النفس بإيمان مطلق.. وأن نجمع الوطن كل نهار، ومساء ونزيل عنه أشواك قد تجرحنا، ونجعله في وعاء أخضر في قلوبنا، وأفئدة أطفالنا.. من الجيد أن نلبس الوطن تاجاً ونقرأ عليه سورتي الفلق والناس، ونتجول به بين أرصفتنا كي يراه الذين بأوطان مشوهة.. من الجيد أن نقفز الحفر الصغيرة التي تعتقد أن الوطن خديج قد تستوعبه حفرهم البلهاء. الوطن هذا.. ليست أرضاً منحتنا المتعة.. ولا أرضاً طوقتنا بالأمان، ولا تراباً بذرنا فيها أعمارنا. وليس حقلاً جنينا منها فاكهة وأبا.. ولا سجادة منها دعونا فاستجيب لنا. ولا قافلة من الزيت جعلت العالم ينحني لنا.. وليس حفنة مال سيدتنا.. ولا مقدسات وجهت الجباه لنا.. ولا ضوءاً، ولا ماءً، ولا قمراً، ولا حدوداً ومناطق، ومساحات وخيرات. الوطن هذا المفضل فعل رباني، وقضاء قدري مختار.. الوطن هذا الذي يحتبي بشراييننا، ويبني أعشاشه من شهواتنا اختلاف معتق بالحسنات والرضا، والثبات، وهو الغرس النابت في الأرواح انتماءً، وهو إتقان الولاء للعلم الأخضر المنصوب جلالاً في عقولنا، وسحر الهواء الذي يشاركه رقصة السلام. الوطن هذا الإعجاز المفضل في ضحاه لا ننتظر عشيه إذ هو ألق وصفاء، وعند مسائه لا نود الجلاء إذ هو الأنس والهناء.. الوطن المفضل ذو وجه كوجه الأرض الصالحة إن ينظر في مرآة الغيم سيجد أعيننا تفتر، ويغمرها انشراح أخضر. وإن ننظر في كل الأشياء سنجده الماكث فينا كطهارة فجر وتسابيح راهب. الوطن شيء نابت فينا، وامتداد لجذور الحياة، بل هو جذورها فلا حياة دونه.. الوطن أب، وأخ، وصديق، وأم.. وحياة راضية مرضية. اصمت أرجوك: لا تخبرني بما أكره من رتوش في وجه الوطن.. صدقني ذات يوم سيبدو الوطن بدونها وضّاء الوجه مشرقاً.. اصمت أرجوك أياً كان حديثك عن وطني لن تستطيع انتزاع قدسيته من روحي.. اصمت أرجوك.. إن الوطن يعيش سلاماً.. وهناك لئاماً يرجون الشر ويبغون أثاماً اصمت أرجوك لا تخبرني: فوطني يعيش سلاماً وطني عِش إن تمسسننا نارك فليست إلا برداً وسلاماً.