يصعب تصنيف محمد بن عبدالرزاق القشعمي؛ لأنه جمع على صيغة المفرد، أو مفرد على صيغة الجمع، فهو ببلوجرافي، ومؤرخ، وباحث، وراصد، ومؤرخ، وهو في هذه المجالات كلها "مبدع"، وجاد، ومجتهد، ودؤوب ومثابر، وجلد، وقادر. أمام ما يزيد على ثلاثين مؤلفا، لا يمكن لعارف بالقشعمي أن يتخيله إلا بين أرفف الكتب، أو محاطا بمئات الصحف والمجلات القديمة؛ لأنه "راصد" موثِّق؛ ولأنه من كتب بالوثائق سيرة ثقافة ثرية لم يكن أحد من المحيطين ببلادنا يتوقع وجودها في بلاد الرمال والنفط، ليقول للعالم العربي الذي ينكرنا: نحن هنا، حيث لا تتوقعون أن لنا وجودا معرفيا أو ثقافيا أو إبداعيا. ابن الزلفي، المولود سنة 1364، لم يقدم "الإنتاج" على "الاستزادة"، كما يفعل متسلقو جدران الثقافة، والقافزون على أسوار المعرفة، ولذا لم يذهب إلى شارع التأليف الخطر، إلا بعد أن أمضى سنوات طويلة يتجول في شارع القراءة الهادئ، حتى أدرك أنه قادر على الذهاب إلى الشارع الأكثر خطورة وصخبا، فسار إليه "واثق القلم يمشي موثِّقا"، وهذا الجزء من سيرته درس مهم للمخاطرين بالخروج مسرعين من أزقة القراءة، إلى طرق التأليف السريعة، حيث النقد، والتلقّي، مما قد يحرق المتعجلين، وينهي طموحاتهم، ويحيل نتاجهم إلى هباء منبث، لا يضيف إلى الثقافة، ولا يثري المعرفة، و"لا يسمن ولا يغني من جهل". لو أنني اكتفيت في هذا "البروفايل"، بسرد عنوانات مؤلفاته، ما حوتها المساحة، ولذا اتجه القلم نحو وصف "القشعمي"، بوصفه حالة معرفية تحتاج إلى "تشخيص" خاص. في عام 1414، تقاعد القشعمي من عمله مديرا للقسم الأدبي بالشؤون الثقافية في "رعاية الشباب"، بعد أن كان له دور رئيس في نشر سلسلة "هذه بلادنا"، التي يشكرها الباحثون الجغرافيون والتاريخيون والاجتماعيون والأدبيون، وربما لا يشكرون أباها؛ لأنهم لا يعرفون من هو؟ وهو القشعمي. تقاعد القشعمي مبكرا، لا ليستريح، وإنما ليبدأ العمل فيما هو مهيأ له، وليس هناك مكان أكثر ملاءمة له من أن يعمل بين أرفف مكتبة، فتعاقد مع مكتبة الملك الوطنية ليعمل مديرا للشؤون الثقافية، وهناك كانت النقلة الحقيقية إلى شارع التأليف، وبرغم ذلك، فقد آثر التريث حتى سنة 1420، ثم انهمر كالسيل الهادر في واد، نسي الناس أنه واد، لطول سنواته "العجاف"، فكانت بدايته ب"بدايات"، وهي هو، ليذهب إلى "الجهيمان"، ويكتب عنه تحت عنوان موح ودال في آن واحد، هو: "سادن الأساطير والأمثال"، ثم يعيد الكرّة حول "الجهيمان"، ليغادره ميمما وجهه شطر "الطائر النبيل"، فيكتبه ويعيد ترتيب إنتاجه، من خلال كتاب: "ترحال الطائر النبيل"، وهو عبدالرحمن منيف، ليصبح "السيل" عادة تتكرر في العام أكثر من مرة، وهو بدون "غثاء" في المرات كلها. يتوهم أناس أن القشعمي يكسر "التابو" في بعض مؤلفاته، بينما هو في واقعه يذهب إلى الممكن والمهيأ والمسموح، مما يزعم حراس المعرفة غير العارفين بجوهرها، أنه ممنوع أو غير متاح، ليثبت أن السقف السعودي أعلى بكثير من تخيلات الواهمين، وأنه لا سور يحيط بالمعرفة، ولا حواجز تمنعها من أن تكون فضاء مفتوحا كما هي في أصلها، وكما هي في تكوينها؛ لأنها "معرفة"، ولا معرفة بحدود وأسوار وحواجز، بل كلها متاحة متى كانت موثّقة، وغير موجّهة. القشعمي خاض معمعة المعرفة بشجاعة نادرة، برغم أنه نفسه الطفل الذي خاف من أن تعضه السيارة عندما رآها أول مرة تغزو قريته النجدية، ولا إقدام إلا بعد إحجام، وما الإحجام إلا حذر، ولعل هذا يفسر تأخر القشعمي في الانتقال إلى شارع التأليف، حيث يسبق الاستدلال على الطريق، السيرَ فيه، وتلك روح الباحث الحقيقي، الذي يتوثق من وجود مصادره ومادته العلمية، قبل الإقدام على اختيار الموضوع. القشعمي يكتب بطريقة واضحة ومباشرة؛ فكل لفظة تؤدي معناها، دون "حمولات" دلالية، أو دلالات هامشية، أو إيحاءات شاعرية، وتلك المزية ناجمة عن واقعيته، فهو يدرك أن اللغة ذات الأجنحة ليست لغته؛ ولذا لم يتكلف أو يتصنع، حتى تتحول اللغة عنده إلى "خلطة سرية رديئة"، وإنما اختار لغته التي تحقق أهدافه من الطريق المستقيم. بقي شيء مهم: محمد عبدالرزاق القشعمي لا يحمل شهادة جامعية، فتعليمه لم يجاوز المرحلة الثانوية، ولهذه المعلومة دلالات كثيرة، وبها دروس يعجز عن استيعابها الباحثون عن "د" المجانية، بلا درس، ولا بحث ولا "سهر الليالي"، من الذين يخاطبهم القشعمي وأمثالُه قائلين: "سلاما".