لم يدع وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، أي قضية تعاني منها دول منطقة الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي، إلا وذكرها في خطابه الذي وجهه لنظرائه المشاركين في أعمال الدورة ال41 لمؤتمر مجلس وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي، المنعقدة في جدة، وحضرها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وغاب عنها وزير خارجية إيران، جواد ظريف. وحضرت الأزمة العراقية، أحدث المستجدات على الساحة العربية، في كلمة الفيصل، التي حذر فيها من نذر حرب أهلية وسط الأوضاع البالغة الخطورة، التي يعاني منها العراقيون جراء المخططات الرامية إلى تهديد أمن بلدهم واستقراره، وتفتيت وحدته الوطنية، وإزالة انتمائه العربي، مبينا أن إفرازات الوضع السوري قد أوجدت مناخا ساعد على تعميق حالة الاضطراب الداخلي السائد أصلا في العراق؛ نتيجة الأسلوب الطائفي والإقصائي. بكلمات واضحة، وعبارات دقيقة، حدد وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل أسباب المشكلات التي تعاني منها الأمة العربية والإسلامية، مشيراً إلى أن عوامل داخلية وخارجية كثيرة أدت إلى هذا الوضع، ولم ينس أن يجدد تأكيداته أن العامل المذهبي والنعرات الطائفية تقف وراء ما تشهده سورية والعراق. وفي بداية كلمته بمناسبة افتتاح أعمال الدورة الحادية والأربعين لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، التي بدأت أمس وتنتهي اليوم بقصر المؤتمرات في جدة، والذي تستضيفه المملكة تحت عنوان "استشراف مجالات التعاون الإسلامي"، ابتدر الفيصل كلمته بالقول "نجتمع اليوم على خلفية تطورات ومستجدات عمت أرجاء عالمنا الإسلامي، وبالذات البلدان في منطقتنا العربية، والتي ما زال البعض منها يعاني من حالات الاضطراب السياسي والأمني في حين تمكن البعض الآخر من سلوك الطريق الذي نأمل أن يعيد لها أمنها واستقرارها وينقلها إلى مرحلة البناء والنماء". مؤكداً أن المملكة اتخذت موقفاً ثابتاً تجاه جميع البلدان الشقيقة التي خاضت غمار الاضطراب السياسي والعنف الداخلي الذي عصف بها، قوامه الدعوة إلى نبذ الفتن والفرقة، وتلبية المطالب المشروعة لشعوب هذه البلدان، وتحقيق المصالحة الوطنية بمنأى عن أي تدخل أجنبي أو أجندات خارجية، والحيلولة دون جعل هذه البلدان ممراً أو مستقراً لتيارات التطرف وموجات الإرهاب. وأضاف "المملكة العربية السعودية التي يسعدها استضافة مؤتمركم في هذه الحقبة الدقيقة المتخمة بالتطورات والمتغيرات، تجد في هذه المناسبة الطيبة ما يتيح لها التأكيد على ضرورة توحد الصف وتكثيف الجهد، من أجل الخروج بنتائج تسهم في معالجة الأزمات التي تعصف بمنطقتنا على النحو الذي يعيد لها الاستقرار ويساعد على دفع عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية فيها". نهضة مصر وكان الملف المصري على رأس الملفات التي ناقشها الفيصل، حينما تطرق إلى دعوة الرياض في وقت سابق برعاية من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، إلى عقد مؤتمر أشقاء وأصدقاء مصر للمانحين، للتغلب على التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها أرض الكنانة، لاسيما بعد أن اختار الشعب المصري قيادته التي ستقوده نحو مستقبل زاهر ومستقر. مشيراً إلى أن موقف المملكة المساند لمصر ينطلق من شعورها العميق بأن استقرار جمهورية مصر العربية ركيزة لاستقرار العالمين العربي والإسلامي، متمنياً أن يخرج هذا المؤتمر بموقف قوي يشجع أشقاء وأصدقاء مصر على الاستجابة لهذه الدعوة والمشاركة بفعالية في أي جهد يعيد لمصر دورها العربي والإقليمي في المنطقة. مواجهة الاستيطان والتهويد ومن ثم عرج وزير الخارجية السعودي على مناقشة ملف القضية الفلسطينية، قائلاً إن الأمر ما زال يصطدم فيها بذات العقبات والتحديات المتمثلة في استمرار التعنت الإسرائيلي وإمعان حكومة إسرائيل في سياسة الاستيطان، وإجراءات التهويد، إضافة إلى الأخذ بمبدأ يهودية الدولة الإسرائيلية، لافتاً إلى أن تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية وتشكيل حكومة الوفاق يعتبر خطوة مهمة وضرورية نحو بناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها مدينة القدس، وتستحق هذه الحكومة التي تمثل شعبها من كافة أطراف المجتمع الدولي مؤازرتها والتعامل معها لتحقيق التسوية النهائية وحل الدولتين. وأبان سموه أن موضوع القدس المرتبط بتاريخ نشوء منظمة التعاون الإسلامي أصبح يشكل هو الآخر رمزاً ثابتاً، ليس فقط لحدود الصلف والعدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني مسلمين ومسيحيين، بل وتحديا سافراً للأمة الإسلامية برمتها، مع استمرار عبث إسرائيل بهوية وإرث هذه المدينة المقدسة، ومحاولات تغيير وضعها الجغرافي والديموجرافي، وتعريض المصلين في الحرم الشريف لأشكال الاستفزاز والتضييق. الأزمة السورية وكان ثالث الملفات التي ناقشها سموه واستعرضها، ملف الأزمة السورية المشتعلة منذ 4 سنوات، حيث أكد أن فشل جنيف 2 في التوصل إلى حل يستند إلى بنود إعلان جنيف الأول والمسارات المعقدة التي دخلتها "الأزمة السورية"، وتعاظم أعمال العنف التي يرتكبها نظام بشار الأسد بحق الشعب السوري الثائر منذ مارس 2011، كان أحد أبرز العناوين التي تطرق لها، وقال "تنعقد دورتنا الراهنة بعد أن اجتازت الأزمة السورية منعطفاً نحو الأسوأ، في أعقاب فشل مؤتمر جنيف الثاني في التوصل إلى حل يستند إلى بنود إعلان جنيف الأول، وهذا الفشل أدى إلى تعاظم أعمال العنف والإبادة التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه الأعزل، وانحسار فرص الحل السياسي لهذه الأزمة، نتيجة لاختلال موازين القوى على الأرض لصالح النظام الجائر، بسبب ما يتلقاه من دعم مادي وبشري متصل من أطراف خارجية بلغت حدود الاحتلال الأجنبي، وساعد على ذلك كله فشل مجلس الأمن في التحرك لوضع حد لهذه الكارثة الإنسانية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا". وأكد الفيصل في كلمته التي وصفها بعض المجتمعين في المؤتمر بأنها "تحمل حلولاً سعودية" سبق أن طرحتها الرياض بشأن تسليح مكونات المعارضة السورية المسلحة ذات النهج المعتدل، وأضاف "هذا الوضع مرشح للتدهور أكثر فأكثر مع كل انعكاساته الإقليمية الخطيرة، ما لم يحزم المجتمع الدولي أمره باتخاذ موقف حازم، يضع حداً لهذه المجازر الإنسانية البشعة، ويوفر للشعب السوري ما يمكنه من الدفاع عن نفسه والعمل على حماية المدن والمؤسسات السورية من الدمار، ويتعين عليها في هذا السياق الالتفات إلى معالجة الوضع الإنساني البالغ الخطورة، والناجم عن تزايد أعداد النازحين واللاجئين السوريين داخل وخارج سورية، وهذا ما يستدعي تدخلاً دولياً سريعاً، بمعزل عن الاعتبارات السياسية وحسابات التنافس الدولي". طائفية الحكومة العراقية وأكد الفيصل على ارتباط ما يجري في العراق بالوضع في سورية من خلال تناوله الملف العراقي بعد السوري مباشرة، في دلالة تؤكد عمق موقف المملكة من الأحداث في البلدين، وقال "يبدو أن إفرازات الوضع السوري قد أوجدت مناخاً ساعد على تعميق حالة الاضطراب الداخلي السائد أصلاً في العراق، نتيجة الأسلوب الطائفي والإقصائي، الأمر الذي نجم عنه تفكيك اللحمة بين مكونات شعب العراق، وتمهيد الطريق لكل من يضمر السوء له لكي يمضي قدماً في مخططات تهديد أمنه واستقراره، وتفتيت وحدته الوطنية، وإزالة انتمائه العربي، وترتب على ذلك كله هذا الوضع البالغ الخطورة الذي يجتازه العراق حالياً، والذي يحمل في ثناياه نذر حرب أهلية لا يمكن التكهن بمداها وانعكاساتها على المنطقة. مبادرة سعودية ولم ينس الفيصل أن يعالج بكلماته الأوضاع الإنسانية الأخرى التي تمر بها بعض الشعوب الإسلامية، وما يعانيه العالم الإسلامي من جراحه التي ما زالت تنزف يوماً بعد يوم، والكوارث والأزمات التي تتنقل ضد المسلمين من بلد إلى آخر، على غرار ما يحدث في ميانمار وأفريقيا الوسطى وغيرهما من البلدان. كما تحدث عن الإساءات والاعتداءات التي أصبحت تطال ديننا الإسلامي الحنيف، وشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويصدر هذا الأمر من جهات وأفراد ووسائل إعلام، إما من باب الجهل بحقيقة الإسلام أو من منطلق التحامل والكره لهذا الدين ومعتنقيه. وقال "ديننا الإسلامي الحنيف هو دين الرحمة والعدالة والوسطية، والله عز وجل جعل الأمة الإسلامية أمة وسطاً، فقال "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً"، وجاء الإسلام ليقيم حضارة إنسانية تقوم على قيم الحوار والوسطية والتسامح والعدل ونبذ الظلم والإقصاء والغلو والعنف والتطرف مما جعلها حضارة إنسانية تخدم البشرية جمعاء". وأبان سموه أن هذه المبادئ شكلت ركائز دعوة خادم الحرمين الشريفين التي أطلقها من منبر الأممالمتحدة لاستصدار قرار يمنع الإساءة للرموز والمقدسات الدينية من مختلف الجهات ومحاسبة المتورطين في هذا الأمر المشين، وتابع "حرصاً من خادم الحرمين الشريفين على إزالة مسببات التصادم بين الحضارات والثقافات، فقد جاءت دعوته حفظه الله للأخذ بمبدأ الحوار والتعايش بين أتباع الديانات والعقائد في مختلف الأمم والشعوب، وعلى أساس ما يجمعها، والابتعاد عما يفرقها، وجاء التأكيد على نبذ العنف والتطرف والإرهاب في قمة مكة الإسلامية الاستثنائية عام 1433ه". قضايا التنمية ومضى سموه بالقول "إضافة إلى جملة التحديات السابقة التي مازلنا بصدد التصدي لها والتعامل معها، يتبقى أمامنا تحدٍ هام لا بد من مواجهته والتعامل معه، وهو تحدي التنمية الاقتصادية والثقافية لبلداننا، والعمل على إنهاض أمتنا الإسلامية لترقى إلى مصاف الأمم المتقدمة، وتتبوأ المركز الذي أراده الله لها بأن تكون بحق "خير أمة أخرجت للناس". فإذا كنا قد وضعنا لأنفسنا برنامجاً عشرياً يرتبط بعملية التحول التي نتطلع إليها، فمطلوب منا إجراء مراجعة لما أنجزنا من هذا البرنامج على امتداد الفترة الماضية، وما تبقى علينا إنجازه، وقد يتطلب الأمر منا إعادة تقييم برامج الخطة على أساس تجربتنا في تطبيق برامجها، وقد تكون هناك حاجة لإعادة صياغة الأولويات من منطلق ما نواجهه من معطيات ونصادفه من مستجدات، واختيار شعار "استشراف مجالات التعاون الإسلامي" لهذا المؤتمر يضعنا جميعاً أمام مسؤولية بحث تفاصيل هذا الاستشراف وأدواته في مختلف جوانب العمل الإسلامي المشترك. وفي ختام كلمته، أعرب سمو الأمير سعود الفيصل عن بالغ تقدير حكومة المملكة العربية السعودية للدول الشقيقة الأعضاء لاختيار مدينة جدة لتستضيف المقر الدائم "للهيئة الدائمة والمستقلة لحقوق الإنسان"، مؤكدًا أن المملكة ستقوم بواجب الضيافة لهذه الهيئة، وتقدم لها كل ما من شأنه أن يمكنها من القيام بعملها وأداء دورها على النحو الذي يحقق تطلعات الدول الأعضاء. وتوجه سموه في ختام كلمته بالشكر للجميع، متطلعاً أن يخرج هذا المؤتمر بروح تعكس إصراره وحرصه على بلوغ ما تصبو إليه قيادة الدول وتتطلع إليه شعوبها من غايات وأهداف تتفق مع مكانة الأمة الإسلامية ورسالتها الخالدة.