لغة الحوار أساس بناء المجتمع فمن خلال الحوار الناجح يتفق الناس على العيش بسلام وإن اختلفوا في سلوكياتهم وفيما يعتقدون. لفلسفة الحوار مبادئ وأهداف متعددة ومختلفة. الهدف الأساسي للحوار هو الوصول إلى اتفاق بين المتحاورين. وهذا الاتفاق المرجو يمتلك شروطا معينة كشرط أن يستفيد منه كل فرد وفريق متحاور. ومن مبادئ الحوار السليم مبدأ يشير إلى أن على المتحاورين عدم دخول الحوار بمسلمات مسبقة معادية أو مناقضة لمعتقدات الآخرين الذين نتحاور معهم. هذا لأنه متى بدأنا الحوار بمسلمات مسبقة ويقينية سيفشل الحوار لا محالة. ومن مبادئ الحوار الناجح أيضا مبدأ ألا نتعصب لأهدافنا بل أن نسمح لأنفسنا بأن نتنازل عن بعض من أهدافنا لنصل إلى تسوية مع الآخر كخطوة أولى نحو تحقيق أهدافنا كافة في وقت لاحق. باختصار, الحوار السليم والناجح يبنى على عدم التعصب لهوياتنا وأهدافنا المسبقة والمحددة سلفا؛ فأي تعصب سيؤدي إلى فشل الحوار. ومن مبادئ الحوار أن نتحدث عما هو مرتبط بالقضية التي نتحاور من أجلها وأن نقول ما هو صادق وما لدينا براهين على صدقه. بالإضافة إلى ذلك, لا ينشأ أي حوار إن لم تكن ثمة مشكلة أو قضية لا بد من حلها. لذا يهدف الحوار إلى حل مشكلة أو قضية. ولا يحدث الحل إلا من خلال اتفاق المتحاورين على أن هذا الحل أو ذاك هو الحل الوحيد المناسب في هذه الفترة الزمنية أو تلك وفي ظل هذه الظروف أو تلك. فأي اتفاق موقت لأن الظروف متغيرة بشكل دائم. من هنا, لا يتوقف الحوار بل الحوار عملية مستمرة في البحث عن حلول لمشاكل واقعية أو حتى افتراضية. لكن لا يخلو مجتمع من قضايا ومشاكل. لذا كل مجتمع يستلزم وجود الحوار بشكل دائم. على هذا الأساس, المجتمع قائم على الحوار المستمر؛ فنحن نتحاور يوميا مع بعضنا البعض لكي نتفاهم ونتفق فنعمل من أجل تحقيق مصالح بعضنا البعض فتتحقق مصالحنا الشخصية من جراء ذلك. هكذا الحوار يهدف إلى صياغة التفاهم وفهم الآخر فالتفاعل السلمي مع الآخرين ما يضمن نشوء المجتمع واستمراريته. الإنسان في تواصل دائم مع الآخرين. الإنسان كائن تواصلي, ومن دون تواصل بين الأفراد لا تفاعل بينهم وبذلك لا مجتمع. لكن كل تواصل لغوي أو جسدي هو حوار مع الآخر. من هنا, الحوار أساس نشوء المجتمع ووجوده. والإنسان لا يغدو إنسانا من دون مجتمع لأن الإنسان كائن اجتماعي. لذا الحوار خالق إنسانية الإنسان. على هذا الأساس, لا إنسان من دون حوار. كل هذا يرينا محورية الحوار في إنتاج الإنسان والمجتمع. يترتب عن هذه النتائج أنه متى فشل الحوار خسر الإنسان إنسانيته وزال المجتمع الإنساني. من جهة أخرى, المشاكل والقضايا الإنسانية ضرورية لكي يوجد الحوار، وبذلك من الضروري وجود المشاكل والقضايا المختلفة لكي يتكون الإنسان وينشأ المجتمع علما بأن من دون مشاكل وقضايا لا داع للحوار ومن دون حوار لا إنسان ولا مجتمع. لذا التاريخ البشري عبارة عن مشاكل وقضايا وسعي نحو حلها. الإنسان مشروع حوار. فمن دون حوار لا يوجد إنسان لأن الحوار يسعى إلى تحقيق القدر الأكبر من إنسانية الإنسان وذلك من خلال تحقيق التفاهم والاتفاق بين البشر. حوارنا العربي دوما فاشل أكان حوارا مع الآخر الأجنبي أم مع الآخر العربي، تتنوع أسباب فشل الحوار العربي. يوجد سببان أساسيان وراء فشلنا المستمر في الحوار. السبب الأول: لا نحاور أنفسنا قبل أن نحاور الآخر، أي أننا ندخل الحوار مع الآخرين قبل أن نتحرر من مسلماتنا المسبقة. بما أن الحوار الناجح والسليم مبني على عدم التعصب لهوياتنا ويقينياتنا وأهدافنا المحددة مسبقا, إذن يبدأ الحوار الحق مع الآخر بالحوار مع الذات أولا. والحوار مع الذات آلية تحرير الذات من يقينياتها المحددة سلفا. فمتى نتحرر من مسلماتنا المسبقة نصبح قادرين على قبول الآخر ما يضمن نجاح الحوار. لكن بما أننا اليوم نحاور الآخر من خلال ما نسلم بصدقه سلفا قبل البدء بالحوار, إذن من الطبيعي أن تفشل كل حواراتنا مع الآخرين. هذا لأن الحوار الناجح يعتمد على دخول الحوار من دون مسلمات مسبقة. فإذا سلمنا مسبقا بصدق ما نعتقد حينها ننهي الحوار قبل أن يبدأ لأن أية مشكلة أو قضية تنشأ من جراء خلافنا مع الآخر حول ما هي المسلمات التي لا بد من أن نعتقد فيها. بكلام آخر, حوارنا مع الآخر يبدأ دوما من خلال يقينياتنا التي لا تقبل الشك والمراجعة والاستبدال ومن خلال هوياتنا الماضوية المحددة سلفا ما يقتل الحوار على الفور. من هنا, لا بد من التحرر من هوياتنا المحددة مسبقا لكي ننجح في أي حوار. وهذا ما لا نجيد اليوم القيام به. الهدف النهائي للحوار هو الوصول إلى هوية مشتركة بين المتحاورين كالهوية الإنسانية والاتفاق على قبول معتقدات مشتركة بينهم. ولذا دخول الحوار بيقينيات وهويات ماضوية ومحددة سلفا يلغي الحوار وينسفه. كل هذا يتضمن أنه من الضروري أن نحاور أنفسنا أولا لنكتشف الهوية المشتركة بين كل البشر ألا وهي الهوية الإنسانية ولنكتشف بذلك المعتقدات المشتركة بين البشر جميعا كإيماننا بالحريات والحقوق الإنسانية. وحين ننجح في حوارنا مع ذواتنا ننجح لا محالة في حوارنا مع الآخر لأننا حينها نكون قد أنتجنا الأرضية المشتركة بين الناس جميعا ألا وهي أننا نشترك في امتلاك هوية إنسانية واحدة حاوية على مجموعة معتقدات ومبادئ واحدة متمثلة في الحريات وحقوق كل فرد منا. أما السبب الثاني لفشل حوارنا: كان حوارنا وما زال فاشلا مع الآخر الغربي لأننا ننتمي إلى ثقافة مشرقية حيث نكتسب المعلومات من خلال التفاعل والتواصل الشخصي فيما بيننا بينما الغرب ينتمي إلى ثقافة أخرى حيث يكتسب الفرد الغربي المعلومات من جراء تحليل المعطيات وما يتضمن ذلك من نتائج. لقد أوضح خبير الثقافات ريتشارد لويس هذا الاختلاف بين الثقافتين. يؤكد لويس على أن العرب والمسلمين يميلون إلى جمع المعلومات من خلال التواصل الشخصي مع الآخر, لكن أهل الغرب يميلون إلى جمع المعلومات من خلال قراءة المعطيات وما تحتوي من إحصائيات. وعلى أساس هذا الاختلاف بين الثقافتين نتمكن بحق معرفة لماذا تفشل حواراتنا مع الغرب. بما أننا نكتسب المعلومة من جراء التواصل الشخصي بينما الغربي يكتسب المعلومة من جراء تحليل المعطيات, إذن نحن نجمع المعلومات بمنهج مختلف عن المنهج الغربي ما يؤدي إلى فشلنا في الوصول إلى معلومات مشتركة ما يتضمن بدوره فشل حوارنا مع الغرب. لكن لهذه المشكلة حل وحيد ومقبول ألا وهو أن نعتمد المنهجين في جمع المعلومات وتشكيلها. فمتى يتفق كل من المشرقي والغربي على جمع المعلومات من خلال التواصل الشخصي ومن خلال تحليل المعطيات في آن سنتمكن حينها من فهم بعضنا البعض بسبب اتفاقنا على كيفية الوصول إلى معلوماتنا فمعتقداتنا ما يضمن بناء حوار ناجح بين الشرق والغرب. حوارنا دائما فاشل. لكن الحوار أساس نشوء المجتمع ووجوده. لذا لم نتمكن من إنشاء مجتمعات. نحن اليوم خارج المجتمع الإنساني بسبب اقتتالنا الطائفي والمذهبي والعرقي. والسبب الأساس وراء ذلك هو أننا لا نجيد سوى قتل الحوار من جراء تمسكنا بيقينياتنا الكاذبة. الحوار الناجح هو الحوار الإنساني. والحوار الإنساني هو الذي يعتمد على اعتبار الآخر ليس سوى الذات والأنا. لكننا اليوم حولنا الحوار إلى لا حوار لأننا لا نحاور أنفسنا أولا, وذلك بسبب أننا نرفض التفكير العلمي والمنطقي ما جعلنا سجناء يقينياتنا المخادعة. فلسفتنا اليوم فلسفة اللاحوار لأننا سعداء بسجون هوياتنا الفكرية والعقائدية المسبقة. ونحن سعداء بها لأننا تحررنا من جهد التفكير. فلسفتنا اليوم فلسفة ألا تفكر أفضل من أن تفكر؛ فالتفكير قد يصل بنا إلى الشك, والشك لدينا حرام. فلسفتنا اليوم هي ألا تحاور أفضل من أن تحاور؛ فالحوار قد يصل بنا إلى تغيير مواقفنا, والتغيير أيضا حرام. هكذا أمست لغتنا لغة اغتيال الحوار. لكن اغتيال الحوار ليس سوى قتل إنسانية الإنسان.