لا يكاد ينتهي هذا الشهر المبارك من كل عام، إلا وتعود بي الذاكرة إلى "الوراءات" قليلا، حيث كان رمضان يجمعني بالبعض من أصدقاء الروح وزملاء الجسد.. منهم من رحل عن الدنيا، ومنهم من رحل عني. منهم من اعتكف وزهد في هذه الحياة، ومنهم من ابتلي بمنصب أو بمركز ففقد أحبة القلب ودفء القربى، ومنهم، ومنهم. رمضان، هو شهر الله الذي اختاره لعباده، كي يكون عهد مراجعة.. مراجعة لكتاب الله وقاموسنا ومرجعنا في كل أمر، ومراجعة لسنن الحياة التي لا تتبدل، ومراجعة لملفاتنا الروحية والنفسية والصحية.. وبه يكمن سر من أسرار الدائرة التي تربط السنة الهجرية الواحدة، لمن يبحث عن مفاتيح المغالق، وعن فهم الكنه والماهية. ويأتي رمضان كزمن للغراس، ففيه تفتح السماء أبوابها لتبارك في كل غرس أو بذرة خير تنثر. وأجمل الزرع ما بذر في أوانه. والخير لا يعني أن تعطي فقط، بل أن تأخذ لنفسك من كل أجر ومن كل ثواب. وهو شهر يتعبد فيه الفقير ضعف عبادة الميسور، بالكبح وبالصبر، وفي تقويم اعوجاج الذات، وبه تتجلى حقيقة الإيمان، لأن الصيام عبادة خفية. ويمثل رمضان شكلا من أشكال الفرص التي قد لا تتكرر، تلك الفرص التي لا يستشعر قيمتها إلا من فقدها عجزا أو مرضا أو رحيلا..! لذا هو من المحظوظين من بلغه الله الشهر، وهو في أتم صحة وأنشط حال. ولعل البعض ممن منحهم الله "راحة البال" من السادرين.. لا يدركون معنى أن يغيب عنهم رمضان أو أن يغيبوا عنه. إما كغياب حقيقي، أو مجازي.. ولن أطيل. على مدار العام هناك من يشعر بذات المعاناة التي تتصيدك لساعات قليلة خلال نهار الصوم، ولكن بشكل أكثر شراسة وديمومة.. وعلى مدار الوقت أنت وهم وأنا نستمع إلى الآية المباركة (وفي أموالهم حق معلوم..) وعلى مدار شهر رمضان يحاول إحساس الجوع أن يوقظ ضمائرنا، وأن يذكرنا باليتم وبالحرمان وبالعجز وبالفقر وبالنزوح من حولنا.. فهل من مدكر؟! لمن يقرأ هذه الأسطر الآن.. حاول أن تبدأ عبادتك بالتحرر من كل شيء أرضي، تحرر من الغباء.. من القلق، من الحسد، من البغض، من الغطرسة، من الغرور والصنمية.. تحرر من حب الدنيا الأعمى. وصم بحواسك عن كل ما يثقلك أو يرغّبك بالدونية وببلادة الثرى، ثم اشكر الله، وسترى عجبا. كل عام وأنتم بخير.
على مدار الوقت أنت وهم وأنا نستمع إلى الآية المباركة "وفي أموالهم حق معلوم.." وعلى مدار رمضان يحاول إحساس الجوع أن يوقظ ضمائرنا، وأن يذكرنا باليتم وبالحرمان والعجز والفقر وبالنزوح من حولنا.. فهل من مدكر؟!