للمتعبين أناسٌ يعرفونهم بسيماهم، وكتابٌ يجدون فيهم ضالتهم للتعبير عن معاناتهم اليومية، لأنهم التصقوا بهم تماماً كالظل، فتولدُ مجموعاتهم القصصية من كل ذات حمل موهٍ متعب، كاد يكون خداجاً أو مجهضاً، لكنه في نظر هؤلاء الكتاب المثقلين بهموم الإنسان حكاية آخر، كما فعل القاص جعفر عمران في مجموعته القصصية "سالفة طويهر" التي صدرت مؤخراً.. "الوطن" كانت في حضرة "السالفة" -ذات سحور- وعمران، وكان هذا الحوار: "سالفة طويهر" ضمت سبع قصص قصيرة، وحملت اسماً شعبياً كادحاً.. حدثنا عنها، ولماذا طويهر تحديداً؟ حملت المجموعة اسم "سالفة طويهر"، لأني رأيته العنوان الأقرب الذي يثبت في ذهن القارئ، فرغم أن الاسم يثير الضحك أو السخرية، إلا أنه يظل ثابتاً في المخيلة، وبما أنها ستباع في معرض الكتاب الدولي فالقارئ أمام آلاف من عناوين الكتب، التي لا يستطيع أن يحفظ منها إلا الأسهل أو الغريب منها، ومن هنا اخترت الاسم ليكون منافساً وسهلا أمام القارئ، وأن يكون محرضاً للقارئ لمعرفة "سالفة طويهر"، ما هي السالفة؟ ومن يكون طويهر هذا؟. وقصة "سالفة طويهر" هي الأطول في المجموعة، وتحكي قصة شاب يسرد أحلامه البسيطة.. شاب ملتصق بالأرض ومتمسك بمبادئه رغم بساطته. أما كونه اسماً شعبياً كادحاً، فبالنسبة لي لم أخطط مسبقاً للكتابة عنها، بل هي شخصية فرضت نفسها عليّ وكتبتها ولم تكن لدي حيلة في رفضها أو استبدالها، كتبتها وأحببتها كثيراً. أخذت قصة "ملف علاقي" مساحة كبيرة من قراء "السالفة"، وتحدثوا عنها نقداً وفناً، ماذا تمثل هذه القصة من معاناة؟ اللافت في قصة "ملف علاقي" هو أنسنة الملف العلاقي وجعله يتحدث ويسرد معاناته، وهي معاناة كثير من الشباب الذين يبحثون عن وظيفة، فيحلم أحدهم بها ليودع ملفه ضمن ملفات موظفي شركة ما.. الملف يقول حكايته في بحثه الدؤوب عن وظيفة في أي شركة أو دائرة حكومية وينتهي به المطاف أن يرمى– منسياً- على "طابلون" سيارة التاكسي.. وكون الملف هو الذي يسرد ويحكي فهذا يعني عمق المعاناة فلم يعد لدى عبدالحميد القدرة أو الرغبة في الحديث، ولم يجد له داعيا فلجأ إلى الصمت وأخذ الملف يسرد. كانت المرأة محوراً مهماً في أكثر من قصة، والمفردات الساخنة أحياناً تطغى على المشهد، هل كان ذلك ضرورياً في باكورة إنتاج جعفر عمران.. تلك المشاهد، وإن كانت واقعية؟ المرأة والرجل مكملان لبعضهما، وهي ملازمة له في حياته ك"ظله"، لا يمكن الفكاك منه، ومهما ابتعد بجسده عنها تظل المرأة مشكّلا أساسيا لشخصية الرجل، فهي شريكته وهي من أسباب سعادته وسبب تعاسته، وهي ثقل وعبء، وكذلك الرجل قد يكون عبئاً وتعاسة في حياتها، وهي محرضة على الكتابة وموجودة في الكتابة وفي الكاتب وفي الحياة، وحضورها في المجموعة كما هي في الواقع، فقصة "ملف علاقي" حضرت ك"أمنية" لا تتحقق، وك"رغبة" عصية على الامتلاك، وفي قصة "البحر أمامي" حضرت قصية وغائبة، وأقبلت على الرجل بشروطها وبطريقتها، أما في قصة "فطيرة الملاهي" فإن الرجل هنا هو الغائب والمنفصل والقصي ولم تستطع المرأة امتلاكه أو السيطرة عليه. أما المشاهد الساخنة والتي تكون بشكل واضح في قصة "البحر أمامي" فقد جاءت المفردات مهذبة ومشذبة من دون ذكر ألفاظ بذيئة أو مباشرة، فهي تصف حالة إنسان أكثر مما تصف المشهد، ولم يكن وجودها بقصد لفت نظر القارئ أو الترويج للمجموعة، بل هي جزء من حياة يومية وطبيعية. في قصة "الفقيد السعيد" كانت الأحداث تدور باهتمام حول شخصية مرتضى وسمير الصديقين، ولكن في النهاية لم تكشف عن مصير زواج سمير من أخت مرتضى، لماذا؟ هي تتناول الفقد وما يتركه من أثر، فهي تتكون من مقطعين، المقطع الأول يصف الصدمة التي يتعرض لها من يفقد عزيزاً، وكيف يعيش في حالة ذهول وغياب عن محيطه، ولكن بعد دفن الفقيد أمام ناظريه يعود من غيابه ويصحو من صدمته، وهذا ما بينه المقطع الثاني حيث عاد مرتضى طبيعياً إلى حياته. أما سمير فكان ينوي الزواج من أخت مرتضى ولكنه بعد أن التحق بشركة "أرامكو" تغير رأيه في البيت بأكمله، كونها عائلة فقيرة ومتواضعة ولم تعد تناسبه وليس بالضرورة التطرق إلى مصير أخت مرتضى لأنها ليست هي محور القصة. من الواضح أن جميع القصص وُلِدت من الطابع الاجتماعي، وحكايات الشارع مع الناس المتعبين، فلماذا هذا الاختيار؟ أكتب حكاية الناس المتعبين، ربما لأنني أعيش في قرية، ولأن الأحساء لا تزال ريفاً، فهي مليئة بالناس الطيبين الكادحين الذي لا يحلمون بأكثر من تأمين قوتهم اليومي والعيش بسلام ووئام مع محيطهم.. شخصيات ودودة ومتصالحة مع ذواتها ومنسجمة مع المكان، كما أن الكاتب لا يختار شخصياته، بل الشخصية هي التي تستفزهُ، وعادة ما تكون محرضة على الكتابة، فتبدأ تشغل ذهنه وربما لا يقبل بها في أول الأمر، ولكنها لا تتركه يهنأ، بل تظل تلحّ عليه في الظهور، ولا يستطيع أن يتخلص منها إلا بالكتابة.. تعيش في داخله وتقض مضجعه، فتتحول إلى فكرة قصة وتنمو وتكتمل، أما في أثناء الكتابة فأنا شخصياً لا أعرف تفاصيل الكتابة ولا أتذكر لحظاتها، هل كنت سعيداً أم حزيناً، عادة أشعر بغياب تام عن تلك اللحظات، أو شيء لا أستطيع تذكره الآن ولا أعود إلى وعيي إلا بعد أن انتهي من الكتابة، حينها أشعر بالفرح وبانتصار صغير يملأُ حياتي لا يقدر بثمن وعصي عن الوصف. لماذا تأخرت كثيراً في إصدار مجموعتك القصصية الأولى؟ نعم تأخرت كثيراً كثيراً، شغلني العمل الصحفي فقد أخذ مني الكثير، وما زاد مشاغلي أكثر أنني غير متفرغ ولدي وظيفة أخرى، بالإضافة إلى ارتباطي في سنوات مضت بعضوية مجلس نادي الأحساء الأدبي وكذلك جمعية الثقافة والفنون ومنتديات ثقافية وغيرها، ارتبطت بها بصفتي مثقفا وإعلاميا. المجموعة كتبت على فترات متباعدة، وقد استبعدت قصصا أخرى بعد أن تجاوزها الزمن، كما تجاوز الزمن مجموعة شعرية لم أصدرها في حينها فأصبحت من الماضي، وبإصدار "سالفة طويهر" أشعر أنني تخلصت من تجربة قديمة في كتابة القصة، وأرجو أن أقدم ما هو أفضل ومختلف عن هذه القصص في مجموعة مقبلة.