"بر الوالدين" ليس مجرد سلوك حميد ينتهجه الأبناء مع آبائهم فحسب، بل هو من أكثر السلوكيات التي أمرنا بها ديننا الحنيف وشدد عليها في أكثر من موضع في الكتاب والسنة، حتى اقترن رضا الوالدين عن الأبناء برضا الله عنهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة. ومع تراجع فضيلة بر الوالدين مع عدد من الفضائل الاجتماعية المحمودة، يجد المجتمع نفسه أمام عدد من القصص التي يندى لها الجبين حين تشير إلى وقائع العقوق، وأخرى تنشرح لها الصدور حين تحكي عن بر الأبناء بوالديهم والجزاء المحمود الذي يلقوه في الدنيا والآخرة لما قدموه من فعال حميدة لأبويهم. تقول "أم سلمى" أعيش في منزل أهل زوجي، إذ يقيم والداه، ورغم أن لدي من الأطفال خمسة أكبرهم في الثانوية، إلا أني والحمد لله أعمل على رعاية والديّ زوجي قدر استطاعتي، فيما يقوم أبنائي بنفس الشيء مع الجدّين، وهو ما يشعرهما بالفرح والسرور، ويشعرنا جميعا بالرضا في حياتنا. أما سعاد عبدالرحمن وهي طالبة تقول: "تربيت في منزل جدتي، وأحبها رغم أنها تختلف معي في أشياء كثيرة نتيجة اختلاف الأجيال وفارق العمر الكبير بيننا، وقد تغضب مني أحيانا، ولكن سرعان ما أعود لها لأسترضيها، بعد أن أشعر بهدوء غضبها وهو ما أرجو أن يعوضني الله خيرا عنه. أما أحمد عبدالله فيقول: صدمت مرة بقيام ولدي البالغ من العمر سبع سنوات بالصراخ في وجهي بحجة طلب شيء، وعند سؤاله لماذا فعل هذا، قال: "مو قصدي" وتبادر إلى ذهني حادثة حدثت بيني وبين والدي قبل هذا الموضوع بيومين، حين اشتد نقاش بيني وبينه وعندما قال لي أبي لماذا الصراخ رديت عليه بنفس الإجابة "مو قصدي". وأشعرني هذا الموقف أن الأطفال سريعو التقليد، ولديهم قدرة عالية على امتصاص جميع أفعالنا السلبية والإيجابية، والأهم من ذلك أن ما فعلته مع والدي سرعان ما رده علي ابني. وتعليقا على القضية من منظور علمي، تتحدث المدربة والمستشارة النفسية والأسرية سناء محمود درادكة ل"الوطن" قائلة: تبعا لنظرية التعلم الاجتماعي فإن الإنسان كائن اجتماعي يعيش ضمن مجموعات من الأفراد ويتفاعل معهم ويؤثر ويتأثر بهم، وبذلك فهو يلاحظ سلوكيات وعادات واتجاهات الأفراد المحيطين ويعمل على تعلمها من خلال الملاحظة والتقليد. ووفقا لتلك الطبيعة الإنسانية، فإن الأبناء يستطيعون تعلم عدد من الأنماط السلوكية بمجرد ملاحظة سلوك الآخرين، إذ يعد الآباء والمحيطون بمنزلة نماذج يتم الاقتداء بها ومحاكاتها. وتضيف درادكة: تعتمد قوة تعلم السلوك والانتباه للنموذج، وما يعرضه من أنماط سلوكية إلى درجة كبيرة على خصائص النموذج، من ناحية الجاذبية والرعاية والتقبل وكفاءة النماذج التي يتم إدراكها، إضافة إلى المتغيرات المرتبطة بالمكانة المدركة والقوة الاجتماعية للنموذج وبالطبع فليس هناك قوة أكبر من نموذج الوالدين ومكانتهما لدى الأبناء. وإذا كان هذا النموذج متناقضا فيما يقوله ويفعله، فبالتأكيد سوف تهتز صورته لدى الأبناء، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الوالدين لمصداقيتهما واختلال الصورة الذهنية التي يرسمها الابن لهما، وبالتالي فإن الآثار السلبية للتناقض بين أقوال وأفعال الوالدين لن تنحصر فقط في مجال العقوق، بل قد تتعداها إلى عدد من السلوكيات غير المرغوبة، مثل الكذب والتمرد، ويتحول الابن إلى شخصية غير متزنة وغير قادرة على تمييز الصواب من غيره. وتابعت: نصيحتي للوالدين الانتباه جيدا إلى أفعالهما لإبراز نماذج إيجابية يقتدى بها، وعليهما في هذه المواقف محاولة تكوين شخصية مستقلة إيجابية، لتكون مؤثرة في الأبناء لتعديل سلوكهم.