اختلف الباحثون والعلماء حول عوامل الإبداع، إن كانت ذاتية أم اجتماعية، إلا أنه في الحقيقة هناك عوامل كثيرة تشترك لتكون دافعة لظهور الإبداع. فأول هذه العوامل هي العوامل الداخلية الذاتية التي تخص الشخص نفسه، وتركيبته العقلية والنفسية، فلابد من وجود الموهبة التي يجب تنميتها وصقلها، والميول تجاه شيء ما يجذبه دون غيره، فتكون له كقوة محركة دافعة للإبداع، وكذلك ضرورة تحلي الشخص بقدرات عقلية عالية، وحدة ذكاء مناسبة، يتبعها مرونة وطلاقة فكرية وإدراك تام لمحيطه والمشاكل من حوله، هذا كله يساعده على قدرة إنتاج أفكار أصيلة، وملاحظة ما يمكن العمل عليه لإيجاد حلّ لهذه المشاكل لم يكن موجودا سابقا، كما أن الخيال الواسع الذي يمَكن الإنسان المبدع من تصور الأمور بشكل أوضح من غيره من الناس، وكذلك قدرته على تصورها بصور أخرى جديدة واضحة تكون مركزا لانطلاقة جديدة، حيث يسعى المبدع دائما لإشباع خياله وملء كل فراغ فيه بشيء ذي معنى. قوة الذاكرة هي أيضا أحد أهم العوامل الذاتية، والتي تستند إلى خبرات سابقة يستدعيها عند الحاجة. المعرفة المسبقة شرط من شروط الإبداع. وهناك خصائص نفسية من تركيز وانتباه، وأخرى مثل اللذة والتمتع بالنجاح اللذين يدفعان ويساعدان على تفجير الطاقات الإبداعية عند الفرد. كل هذه الشروط وغيرها التي تخص الشخص ذاته تمكَن الإنسان وتهيئه لملاحظة المشاكل من حوله، وكذلك تعطيه القدرة على حلها. يتطلب أن يتصف المبدع بالجرأة والإرادة والرغبة والإصرار، فالعبقرية تتم بالصبر والمثابرة والعمل الجاد والمركز والموجه والاستمرار بإخلاص تام دون التأثر سلبا بكل المعوقات التي عادة ما تصادف طريق المبدعين وتعترض سبيلهم، وذلك بتحييد تلك الصعوبات. إن أحد أهم الشروط الإبداعية أن يتمتع الإنسان بحرية التفكير والتعبير والتدبير، وحرية اتخاذ القرار واستقلاليته التامة دون الخوف من عقوبة أو ضغوط أو ابتزاز، فالقرار المستقل دائما يساهم في العمل الإبداعي إيجابا يقابله السيطرة على العقول التي طالما أدت لاغتيال تلك العقول والمواهب في معظم الأحيان وموتها موتا تدريجيا بطيئا فتتحول كثير من العقول إلى عقول ناسخة أو مستنسخة. فلا إبداع بالتقليد. إلا أن هناك عوامل خارجية مجتمعية هامة للغاية لإنجاح أي جهد إبداعي، أو لاحتضان أي بذرة إبداع لتنمو وتزهر وتثمر، وهذا ما نقصد به حاضنة الإبداع هنا، وهي كل العوامل المحيطة بالشخص والمؤثرة به، وهذه العوامل تبدأ بالعائلة ونوع التربية التي يتلقاها الفرد فيها، مرورا بالمدرسة من خلال المجتمع وثقافته وحالته العلمية أيضا، وما يكتسبه الفرد فيه من ثقافة، وتنتهي بمؤسسات الدولة والمجتمع وما إلى ذلك من سياسات حاضنة للإبداع. فالمجتمع يجب أن تسوده حالة علمية ما، أي مستوى علمي مجتمعي معين؛ لينتج عنه إبداعات مناسبة لتلك العلوم في ذلك المجتمع، فلم يكن بالإمكان الوصول إلى وسائل الاتصال هذه مثلا قبل عصر الثورة الصناعية. فالعائلة أول من يمكن أن تلاحظ أي نشاط ذهني مميز أو غيره عند طفلهم، يميزه عن أقرانه أو أشقائه، وذلك عن طريق بعض الإشارات والدلائل التي تشير إلى ذلك التميز. إلا أنه أيضا يجب أن يتحلى هذا الأب أو تلك الأم بدرجة من المعرفة والإدراك والفهم المعقولة لاكتشاف تميز طفلهم هذا، والعمل على تنمية مواهبه. إلا أن المرحلة التالية التي تلي دور الآباء، وهي المدرسة تكاد تكون الأهم، فإذا ما وجد المعلم المؤهل والمدرب والنبيه لاكتشاف والتقاط إشارات الإبداع عند طفل ما، فهذا الدور في اكتشاف المواهب الإبداعية من بين الطلاب وهي بالتأكيد كثيرة ومتنوعة، والعمل على ترشيدها وتوجيهها في مسارها الصحيح ضمن المدارس المختصة ومراكز احتضان المبدعين، حيث تقوم هذه المراكز بتنمية المواهب الإبداعية والحفاظ عليها ورعايتها ومتابعتها. الحاصل اليوم وللأسف الشديد ترك الكثير من المواهب تموت تدريجيا؛ لإحياء غباءات كثيرة تملأ الساحات صخبا فارغا، تخرجوا و"أبدعوا" بجهد غيرهم، وهم في الحقيقة غير قادرين على تقديم أي شيء ذي معنى أو مغزى لأنفسهم، ويبنون أمجادا من فكر الآخرين الذين يعملون لهم خلف الستار. وأما المواهب الفردية الناضجة غالبا ما تصطادها دول أخرى ليثروا مراكز أبحاثها بينما تبقى مدارسنا جدباء قاحلة. إذن توفر حاضنة الإبداع هذه، وتساوي الفرص للجميع، وتقديم الدعم المادي والمعنوي تحت سقف العدالة الاجتماعية لتحفيز المبدعين آنذاك حتى تتبلور وتتفجر المهارات الإبداعية الحقيقة. فالمجتمع الواعي هو من يحتضن ويحفز أبناءه على الإبداع، ليكون له مكان مناسب بين المجتمعات الحية. في مجتمعاتنا، ما يزال المبدعون الأفراد يقاومون بشراسة رغم قلة إمكاناتهم؛ كي يثبتوا ذاتهم دون احتضان لتلك العقول والاستفادة منها من قبل المجتمع ومؤسساته، وبالنتيجة فإن أغلبها تضمر أو تموت دون أن تُعرف وهم يمتلكون مقومات إبداعية كبيرة لا تتوفر في كثير ممن أخذوا هذا اللقب غُلابا، أو أنهم يضطرون للبحث عن أي عمل لسد حاجاتهم الضروية أولا. يجب تسليط الضوء على هذه الزاوية التي نرى أنها ما تزال مظلمة بالعموم، واكتشاف ودعم المبدعين؛ ليكونوا أفضل رافد لتقدم المجتمع بل أساسه الأول.